عثمان ميرغني

«أميركا أولاً» كان هو العنوان الرئيسي لتقرير استراتيجية الأمن القومي الأميركي الذي أعلنته إدارة الرئيس دونالد ترمب يوم الاثنين الماضي، وحددت فيه أركان وأسس سياستها الخارجية ونظرتها للعالم من حيث الفرص والمشكلات. التقرير عرض رؤية الإدارة لأبرز القضايا والتحديات على الساحة الدولية؛ من المنافسة مع روسيا والصين إلى خطر المواجهة مع كوريا الشمالية، ومن حرب الإرهاب إلى تهديد هجمات الإنترنت، مروراً بالأوضاع في الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا، وانتهاء بما تراه الإدارة كيفية تحقيق مصالح أميركا السياسية والعسكرية والاقتصادية وحمايتها.

مثل هذه الاستراتيجية كان العالم سينظر إليها باعتبارها وثيقة تحدد بوضوح معالم السياسة الخارجية الأميركية، لو أن ترمب كان يتبع نهجاً عقلانياً ويسير بانضباط وراء سياسات مدروسة. لكن الرجل أثبت أنه كثيراً ما يخرج عن النص وينفذ سياسات هوجاء مباغتة تفاجئ حتى أركان إدارته وكبار مستشاريه الذين يطلعون عليها مثل بقية العالم في تغريداته على «تويتر». كما أنه يتصرف بعصبية يتحكم فيها أحياناً هوسه بمتابعة القنوات التلفزيونية وكل ما يسمعه فيها، أو ما يقرأه في وسائل الإعلام الأخرى من انتقادات له أو لسياساته. فوفقاً للتقرير الذي نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» قبل أيام، واستندت فيه إلى مصادر داخل البيت الأبيض، فإن ترمب يقضي أربع ساعات يومياً، وأحياناً ضعف ذلك، في مشاهدة التلفزيون متسلحاً بهاتفه الجوال استعداداً لإطلاق تغريداته على «تويتر».

وسائل الإعلام كانت تجد مادة دسمة في هذه التغريدات التي تعكس تفكير الرئيس ومزاجه ومواقفه تجاه قضايا مهمة أو أشخاص، وتؤثر بذلك على سياسات البيت الأبيض داخلياً وخارجياً. الأمثلة كثيرة وربما كان أبرزها تغريدات ترمب الموجهة نحو كوريا الشمالية ورئيسها كيم جونغ أون التي أشعلت حرباً كلامية أثارت المخاوف من أن تؤدي إلى تفجر مواجهة عسكرية تستخدم فيها أسلحة نووية بالنظر إلى طبيعة الرجلين. كذلك ليس بعيداً عن الأذهان الأزمات التي أثارتها تغريدات ترمب التي انتقد فيها بعض الحلفاء المقربين مثل بريطانيا وألمانيا، ما جعل البلدين يردان عليه بلهجة حادة، وانبرى سياسيون في البلدين لتوجيه انتقادات شديدة وصلت في برلين إلى حد القول إن أميركا لم تعد حليفاً يمكن الوثوق به أو الاعتماد عليه. لهذا تردد أن كبير موظفي البيت الأبيض الجنرال المتقاعد جون كيلي سخّر جهوداً كبيرة منذ توليه لمنصبه للحد من تغريدات ترمب، وإقناع رئيسه بالإحجام عن «سياسة التويتر»، خصوصاً بسبب الأزمات السياسية التي نجمت عنها.

شخصية ترمب المتقلبة ستكون أكبر مشكلة بالنسبة لاستراتيجية الأمن القومي المعلنة في الوثيقة الصادرة هذا الأسبوع. فحتى في خطابه الذي قدم فيه للوثيقة بدا كما لو كان متناقضاً مع بعض ما ورد فيها لا سيما فيما يتعلق بروسيا، إذ تحدث عن التعاون بين أجهزة المخابرات الذي أتاح إحباط مخطط إرهابي في روسيا بناء على معلومات قدمتها أميركا، وأشاد بالتعاون مع فلاديمير بوتين قائلاً: «هكذا يجب أن تكون الأمور»، هذا في الوقت الذي تبنت فيه الوثيقة لغة متشددة تجاه روسيا، واتهمها بأنها «تحاول إضعاف النفوذ الأميركي في العالم وخلق انشقاقات مع حلفائنا وشركائنا».

الوثيقة صنفت روسيا والصين باعتبارهما قوتين منافستين عسكرياً واقتصادياً تسعيان «للنيل من نفوذ وقيم وثروة أميركا»، لكن في الوقت ذاته كانت هناك إشارة إلى أن واشنطن ترغب في «بناء شراكات كبرى» مع البلدين. موسكو وبكين ردتا بلهجة تؤكد طبيعة المنافسة المحتدمة على الساحة الدولية بين القوى الثلاث، إذ انتقد متحدث صيني «الطابع الإمبريالي» للوثيقة، معتبراً أن أميركا تتصرف بمفاهيم الحرب الباردة، بينما قالت روسيا إن أميركا أثبتت أنها ترفض التخلي عن عالم أحادي الأقطاب.

إدارة ترمب التي جعلت «أميركا أولاً» عنواناً أساسياً في تقرير استراتيجية الأمن القومي، ترى أن هذه السياسة لا تعني الانكفاء، ولن تؤدي إلى عزل أميركا، لكن الواقع يبدو مخالفاً؛ أميركا تواجه اليوم مشكلات وتوترات صامتة مع بعض أوثق حلفائها الغربيين بسبب مواقفها إزاء الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. كذلك فإنها انسحبت من معاهدة التبادل التجاري مع دول الباسفيكي، وهي المعاهدة التي كانت إدارة أوباما السابقة تريدها لمواجهة الصين وتمدد نفوذها. الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ عرّض أميركا أيضاً لانتقادات واسعة من كثير من دول العالم، وعلى الرغم من ذلك فإن تقرير استراتيجية الأمن القومي فشل حتى في الإشارة إلى التهديد المناخي.

في مجلس الأمن الدولي يوم الاثنين الماضي وقفت أميركا أيضاً وحيدة في مواجهة إجماع كل الأعضاء الآخرين الذين نددوا بقرارها الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل في قرار لا يتعارض فحسب مع كل قرارات الأمم المتحدة، بل يوجه ضربة لجهود السلام في المنطقة وستكون له تبعات خطيرة.

أميركا تواجه بلا شك امتحاناً لعلاقاتها الدولية منذ دخول ترمب البيت الأبيض، وهو تحدٍّ تعقده تقلبات مواقف رئيسها ومزاجيته ومفاجآته التي طبعت رئاسته حتى الآن.