راجح الخوري

 ذهب المصريون إلى مجلس الأمن بمشروع قرار دبلوماسي مهذّب صيغ بطريقة لبقة كي لا يسبب حرجاً للرئيس دونالد ترمب، بعد قراره نقل السفارة الأميركية إلى القدس، لكنه أُوقف بالفيتو الأميركي رغم إجماع الدول الـ14 في مجلس الأمن على تأييده، وهو الإجماع الذي وصفته نيكي هيلي بأنه «إهانة لن ننساها»، رغم أنه كان من الواضح، أن المشروع جاء في عبارات مدروسة وفي سياق رهان ضمني على أن يساعد ترمب في العودة عن قراره، ليس من طريق إدانته في مجلس الأمن، بل من طريق استجابته للشرعية الدولية في الأمم المتحدة.

غريب أن تنتهي الأمور دائماً في مجلس الأمن بالخيبة، وهي الخيبة التاريخية التي سبق أن دفعت «دول عدم الانحياز» في الستينات إلى تكرار المطالبة بنقل مقر الأمم المتحدة إلى خارج الولايات المتحدة؛ هرباً من الوصاية الأميركية المفروضة عليها، وتحييداً للمنظمة الدولية عن هيمنة سياسة «الاستقطاب الثنائي» يومها، بين رأسمالية غربية تقودها أميركا، وشيوعية يقودها الاتحاد السوفياتي.
مات أقطاب عدم الانحياز جمال عبد الناصر، وجوزيف تيتو، وجواهر لال نهرو وأحمد سوكارنو، وظلّت الشرعية الدولية منحازة، أو بالأحرى مرتهنة إلى الخَمسة الذين يملكون حق النقض أو «الفيتو»، لكن الذي لا يستعمله عادة وفي الأغلب سوى الأميركيين والروس.
وهكذا، يمكننا اليوم أن نرى وبالعين المجردة دماء أو أشلاء عشرات القرارات المقتولة بـ«الفيتو» والتي ذهبت لتراهن على إنصاف العدالة الدولية، سواء لمدينة القدس والقضية الفلسطينية، وسواء للأزمة السورية؛ ففي الأولى أبدعت واشنطن في تمزيق عشرات القرارات، التي كان يمكن أن تساعد في حل عادل ومشرف لهذه القضية، ولو استجابة لقرارات سابقة اتخذها مجلس الأمن ولم تنفذها إسرائيل، وفي الثانية أبدعت روسيا في تعطيل الشرعية الدولية، التي كان يمكن أن تختصر ما سمّاه بان كي مون ذات يوم «مأساة العصر» أي الأزمة السورية التي تفيض بالدم والدمار منذ ستة أعوام.
على سبيل التعداد (فقط لا غير) كان قرار الفيتو الذي نزل من سبابة نيكي هيلي سفيرة أميركا لدى الأمم المتحدة، ليعطّل مشروع القرار المصري الرقم 43، بما يعني أن واشنطن عطّلت حتى اليوم هذا العدد الخرافي من المشاريع التي كان يمكن فعلاً أن تساعد على الحل.
أيضاً على سبيل التعداد، أسقطت موسكو بـ«الفيتو» تسعة مشاريع قرارات للحل في سوريا، كان يمكن أن تساعد في وقف هذه المأساة التي تسببت بطوفان من الكوارث، ولو استمرت أزمة سوريا 68 عاماً مثل الأزمة الفلسطينية، لتمكنت موسكو من التفوّق على واشنطن في وضع كرات الفيتو في شباك الأمم المتحدة.
نعم، شرّ البلية كما يقال، لكن خلاصة البلوى تتمثّل في تصريح نيكي هيلي بعد استعمالها الفيتو، عندما قالت: «هذه إهانة لن ننساها»، تعليقاً على إجماع الدول الأربع عشرة الباقية في مجلس الأمن الدائمين والمؤقتين على تأييد المشروع؛ وهو ما يجعل الولايات المتحدة تقف في وجه الإجماع الدولي إلى جانب الاحتلال الإسرائيلي، بما سيدفن آخر الفرص للتسوية السلمية، التي سبق أن أقرها مجلس الأمن إيّاه بالدعوة إلى قيام الدولة الفلسطينية على حدود عام 1967، وأن تكون عاصمتها القدس الشرقية.
ليس المهم كيف استطاعت هيلي أن تتحدث عن «الإهانة التي لن ننساها»، رغم أن الفيتو هو الذي أهان الشرعية الدولية ووضع إصبع واشنطن في عيون العالم، الأهم والأكثر غرابة أن تحاول تزوير التاريخ وتشويه الواقع، أولاً عندما تقول: «إن القدس كانت عاصمة اليهود لآلاف السنين، ولم تكن لهم عاصمة أخرى»، وثانياً عندما قالت: إنها استعملت الفيتو دفاعاً عن دور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وفي عملية السلام، رافضة اتهام واشنطن بأنها عرقلت عملية السلام، ومعتبرة أن مشروع القرار المصري هو الذي يعيق السلام.
ليس كثيراً أن تسارع السلطة الفلسطينية إلى إدانة الموقف الأميركي الذي سينسف كل ما سبق أن وعد ترمب من «تسوية كبرى» في الشرق الأوسط، وإلى القول إن استعمال الفيتو يُعدّ استهتاراً بالمجتمع الدولي وهو ضد الإجماع الدولي، ويخالف قرارات الشرعية الدولية ومجلس الأمن، وسيؤدي إلى مزيد من عزلة الولايات المتحدة، وخصوصاً عندما تلجأ السلطة الفلسطينية إلى الجمعية العامة طارحة المشروع إياه بما يوسّع من دائرة الإجماع الدولي على رفض الموقف الأميركي.
طبعاً ليس مهماً أن يعلن البيت الأبيض بعد ساعات من استعمال الفيتو، تأجيل زيارة نائب الرئيس مايك بنس إلى المنطقة؛ لأن كل ما قيل عن خطة أميركية للتسوية ينشط فريق ترمب لدفعها إلى الأمام بات على الرف، فالقدس عاصمة للدولة الفلسطينية هي المفتاح الوحيد لتحقيق السلام في المنطقة.
محور مشروع القرار المصري كان جملة في غاية التهذيب لم تذكر لا ترمب ولا الولايات المتحدة بالاسم، وهي «إن مجلس الأمن يبدي الأسف إزاء القرارات التي اتخذت في الآونة الأخيرة والتي تتعلّق بوضع القدس»، ورغم هذا أسقطته واشنطن، رغم الإجماع وتأكيد بريطانيا وفرنسا أنهما ترفضان القرارات الأحادية الجانب بشأن القدس.
ولأن الفيتو أكّد تكراراً أن الولايات المتحدة لم تكن وليست ولن تبقى وسيطاً نزيهاً ومؤهلاً للعب دور في محاولة التسوية، أعلنت روسيا استعدادها للعب دور الوسيط النزيه، مؤكدة دعمها مبدأ قيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس.
على خط موازٍ، انهارت مساعي الأمم المتحدة للحل في سوريا، وأقفل «جنيف 8» على الفشل، وستنتقل المفاوضات إلى سوتشي بإدارة روسية، بعدما كانت موسكو قد استعملت الفيتو تسع مرات في ستة أعوام لإسقاط كل القرارات التي هدفت إلى إنهاء الأزمة، وهذا بدوره يؤكد أن إرادة الشرعية الدولية غالباً ما تكون مشلولة ومعطلة، سواء عندما تسعى لاتخاذ القرارات، أو حتى عندما تفشل في تنفيذ قراراتها السابقة؛ ما يجعل من هذه الشرعية مجرد حبر على ورق.
هل كثير القول إنها مسخرة الشرعية الدولية، عندما يتحوّل ستيفان دي ميستورا كيساً للملاكمة يتناوب عليه النظام السوري وروسيا، تارة يوبّخه سيرغي لافروف فيحاول الاستقالة، وتارة تتهمه دمشق بالانحياز لمجرد دعوته إلى عملية انتقال سياسي تنهي الأزمة المدمرة، وهل مثير أن نتذكر كيف سبق أن فشِلت أو أُفشلت الأمم المتحدة ومجلس الأمن بالفيتو الروسي، فانهارت مساعي الوسطاء تباعاً: المراقبون الدوليون بقيادة العميد النرويجي روبرت مود، ثم كوفي أنان ونقاطه الست ثم الأخضر الإبراهيمي و«المهمة المستحيلة».
كل هذا التعطيل للشرعية الدولية وتقول نيكي هيلي إنها «لن تنسى الإهانة»، لكن العالم سيدتي لن ينسى أن القدس فلسطينية.