محمد المختار الفال

الوطن يمر بتحول في اتجاه الخروج من قيد المصدر الواحد للدخل وأسر الاقتصاد الريعي إلى حرية تنوع المصادر وخيارات اقتصاد المعرفة، وهذا يقتضي حزمة من تحديد المفاهيم وترتيب الأولويات، يأتي في مقدمها صناعة رأي عام مساند لهذا التوجه، بعد الاطمئنان لفهم عناصره وتفهم دواعيه، وهذا لا يتحقق إلا مع بسط الحقائق وتفسير الإجراءات ومناقشة التفاصيل وإزالة كل ما يدعو إلى سوء الفهم المفضي إلى القلق والتوجس.

وفي هذا السياق يمكن القول، من دون مخاطرة، إن هناك إجماعاً وطنياً على ضرورة التقدم، بوعي، في اتجاه تفعيل آليات الإنتاج لتحقيق هدف تنويع مصادر الدخل وإشراك القطاع الخاص في برامج التنمية المتوازنة، كما تتوافر القناعة بإمكان تخلي الحكومة عن تقديم بعض الخدمات للقطاع الخاص، بعد توفير الضوابط والأنظمة الحاكمة لنشاطه وضمان حماية حقوق المستفيدين. وليس خافياً أن إسناد تقديم بعض الخدمات، كالتعليم والصحة، والخدمات البلدية، إلى الشركات سيؤدي إلى رفع كلفتها على المواطن والمقيم لأنها ستصلهم بقيمتها الحقيقية زائداً أرباح مقدم الخدمة.

والغالبية لا تجادل في سلامة هذا التوجه، إذا توافرت له شروطه وضوابطه والآليات الواضحة لتخفيف آثاره في المراحل الأولى للتطبيق، ولهذا، يصبح الحوار والمناقشة والمصارحة في «التفاصيل» ضرورة حتى تتضح الخطوط الغامضة وتفسر الإجراءات وتعطى الأشياء مسمياتها الحقيقية وتكاليفها الواقعية وانعكاساتها على حياة الناس وتوضيح كيفية التعامل معها.

ومن المصارحة المطلوبة: الإشارة إلى أنه توجد شريحة معتبرة من الناس «تتوجس» من نتائج الخصخصة المفاجئة التي تتم في إطار أنظمة وقوانين، يرون أنها، لم تعط الوقت الكافي ولا المناقشة الوافية لوضع الضوابط التي تحمي الإنسان البسيط صاحب الدخل المحدود من «شراهة» الباحثين عن الربح السريع الوفير الذي يدفعهم، في أحيان كثيرة، إلى «تقليص» متطلبات الخدمة الجيدة، مستغلين ضعف الرقابة و«منافذ» القوانين غير المحكمة، فالبعض يخشى، في ظل الأوضاع الاقتصادية الراهنة و«ثبات» الدخول و«ارتفاع» قيمة الخدمات أن يواجه تكاليف التعليم والصحة ونظافة المدن وفواتير الكهرباء والماء حين تصبح في أيدي الشركات بعد أن كانت في يد الدولة الحنونة التي تقدر ظروف الناس وتقدم لهم تلك الخدمات مجاناً وبما لا يضع عليهم أعباء لا يطيقونها.

وإذا كان الناس العاديون «يتوجسون» من الخصخصة خوفاً من زيادة تكاليف المعيشة فإن شركات القطاع الخاص الوطنية تخشى، هي الأخرى، من خصخصة سريعة تفتح الباب للشركات الأجنبية العملاقة للدخول في منافسة غير متكافئة، فتفوز بالاستيلاء على الجزء الأكبر من ثمرات الخصخصة وتتحول الشركات والمؤسسات الوطنية من قائد إلى «تابع» أقصى ما يطمح إليه هو أن يكون «مقاولاً من الباطن» ينفذ الجزء الأكبر من العقود التي تفوز بها الشركات الأجنبية في الوقت الذي يحصل فيه على الجزء الأقل من قيمة تلك العقود.

والسؤال: كيف نواجه هذه المخاوف والهواجس؟ وهل لدى الجهات المسؤولة عن خطط التحول، برامج قادرة على شرح آليات التنفيذ، لكل المهتمين، وبيان ما يترتب عليه من نتائج؟ وما هي انعكاساته على حياة البسطاء من الناس؟

من المؤكد، كما قلت في بداية هذه السطور، أن الغالبية تشعر بضرورة تجديد وتحريك أدوات الإنتاج وتغيير العديد من المفاهيم من أجل إسهام كل عناصر الاقتصاد في زيادة الناتج المحلي الإجمالي وتحقيق تنوع مصادر الدخل التي تضمن استمرار مسيرة التنمية من دون الارتهان إلى حركة السلعة الواحدة «البترول» المتأثر بعوامل ليست كلها اقتصادية. هذه «القناعة الجماعية» تعد مدخلاً جيداً للشروع في حوار موضوعي حول كل القضايا التي تثير مخاوف الناس، إما لنقص في المعلومات أو لعدم الفهم، ووضع برامج وآليات توفر المعلومات الدقيقة وتتبع أسلوب المكاشفة والوضوح والشجاعة في الإجابة على كل الأسئلة، مهما بدت صريحة ومباشرة، إن الضرر الذي ينتج من سؤال «صارخ» أهون كثيراً من تراكمات أسئلة «مكبوتة» في صدور أصحابها تتسرب، بحمولاتها السلبية اليائسة، من عقل إلى آخر فتتحول إلى «مزاج سلبي» يعكر على الناس حياتهم ويشوه الحقائق ويصغر المنجزات الكبيرة في عيونهم، فيتحولون إلى «متشائمين» ينشرون اليأس والإحباط المؤدي إلى التشكيك في النوايا والبرامج والخطط.

وتختلف تساؤلات الأفراد العاديين عن ملاحظات القطاع الخاص على المرحلة الانتقالية، فالأفراد، في عمومهم، يهمهم ما يؤثر في دخولهم ويمس جيوبهم وينعكس على عيشهم، فإذا ارتفعت «فاتورة» تكاليف الحياة، من دون أن يعرفوا لماذا هذا الارتفاع وإلى متى سيستمر وما هي النتائج المتوقعة؟ سيدخلون في تساؤلات «تتناسل» من دون أن يكون لها حدود إذا لم يجدوا من يجيبهم عليها ويطمئنهم على واقعهم ومستقبلهم، وقد يصبحون عرضة لأي تفسيرات سلبية أو معلومات خاطئة، وقد أثبتت التجارب أن أسلوب الرسائل ذات «الاتجاه الواحد» لا يوفر الفهم المؤسس للاقتناع، أما القطاع الخاص فيشعر بأنه شريك لا يؤخذ رأيه في بعض القوانين التي تتحكم في مسيرته، وهذا يولد شعوراً بعدم الرضا إن لم يكن الغضب السلبي، ومن المصارحة الإشارة إلى أن القطاع الأهلي يشعر بأن علاقته بالجهاز التنفيذي علاقة «سلطوية» في اتجاه واحد، يتلقى فيها الأوامر وتصدر بحقه الأنظمة والقوانين من دون أن يكون له رأي فيها، ويتطلع إلى أن يكون شريكاً حقيقياً في رؤية التحول، وهذا يتطلب تعرفه على «فلسفة» الرؤية ومرتكزاتها والأسباب الموضوعية لاختيار آلياتها وأخذ رأيه في القوانين والأنظمة التي تلزمه بالواجبات وتحمله المسؤوليات، وبصورة واضحة، الشركات الوطنية تريد أن تطمئن إلى أن مرحلة فتح الباب للشركات الأجنبية هدفها، هو «تدريب» الكوادر الوطنية وإكسابها الخبرة من خلال ربط نشاط الشركات الأجنبية بالشركات الوطنية، على أسس مهنية تنتقل بها الخبرة من دون أن تتأثر مسيرة التنمية، وهنا أشير إلى أن الغالبية لم تقرأ رؤية 2030، وبعض الذين قرأوها لديهم أسئلة واستفسارات تحتاج إلى إجابات تزيل الملتبس وتفسر الغامض وتشرح المختصر وتعلل الخيارات فتقرب وجهات النظر حتى وإن تباينت، وإدارة حوارات ونقاشات على امتداد تراب الوطن من خلال الجامعات والغرف التجارية ومؤسسات المجتمع المدني مدعاة لنشر الوعي بإيجابيات خطط التحول وتضييق مساحة سوء الفهم، فالمناقشة وسماع الرأي المختلف يقللان من تأثيره السلبي على الرأي العام.