عبدالله المطيري

التفكير النقدي هو تمييز بين الأطروحات التي تقدم حججا وبين الأطروحات التي تستخدم إثارة مشاعر محددة

تعقد حلقة الرياض الفلسفية هذه الأيام «سمنارا» عن التفكير النقدي، لذا أجدها مناسبة لنقل النقاش لمساحات عمومية أوسع هنا. الصديق شتيوي الغيثي كان قد افتتح هذا النقاش عمليا هنا في «الوطن» في مقالته الأسبوع الماضي بعنوان «التفكير النقدي والتفكير الخطابي». أحد الأسئلة المتوقعة والمهمة هو سؤال لماذا التفكير النقدي؟ أو ما الذي يجعل من التفكير النقدي مهارة تستحق الاكتساب؟ يمكن الجواب على هذا السؤال من وجهات نظر مختلفة، يمكن مثلا أن نوضح الضرورة «الأبستمولوجيا» للتفكير النقدي، باعتباره شرطا ضروريا لاكتساب وإنتاج المعرفة. 
كذلك يمكن أن نقدم الأطروحة الأخلاقية من خلال التركيز على العلاقة الضرورية بين التفكير النقدي والعدالة. نلاحظ هنا أن أمل العدالة كله مرتبط بقدرة صاحب القرار، المشرّع أو القاضي على التمييز بين الحجة الصحيحة والحجة غير الصحيحة.
هذه المهارة تحديدا هي ما يعتني به التفكير النقدي أو المنطق التطبيقي، وما سأتحدث عنه اليوم هو محاولة وصف للواقع الذي نعيشه اليوم، والذي يجعل من التفكير النقدي أكثر أهمية. هذا الواقع متميز لارتباطه بالثورة التكنولوجية التي جعلت من استقبالنا للرسائل غير مسبوق كما وكيفا. التفكير النقدي يقوم على واقع أن كل منا يواجه محاولات متعددة للدفع به للقيام بأشياء مختلفة. 
التاجر يحاول الدفع بنا لشراء بضاعته، السياسي يحاول الدفع بنا إلى تنفيذ سياساته، الآخرون في علاقاتنا المباشرة يريدوننا أن نفعل أشياء كثيرة، الزوجة لها أسلوبها، والطفل له أسلوبه، والرئيس في العمل له أسلوبه، والزميل في قروب الواتساب له أسلوبه،... إلخ. التفكير النقدي يساعدنا على التمييز بين الرسائل التي نستقبلها بحيث نقوم بتقييم كل رسالة. والذي يجعل التفكير النقدي مهما جدا هنا هو أننا في عصر اتصال غير مسبوق جعل من إمكانية وصول الرسائل المختلفة لكل منا مرتفعة وسهلة، إضافة إلى الرسائل التي نستقبلها في الوسائل التقليدية كالإذاعة والتلفزيون. هناك وسائل حديثة ترافقنا في كل لحظة ونحملها معنا تقريبا في كل مكان. هذا الفضاء المفتوح على الاتصال جعل من أطراف مختلفة توجه رسائلها لذات الشخص، إذ لم يعد أحد يستطيع احتكار فئة من الفئات، فكل فرد منا يستقبل رسائل مختلفة وأحيانا متناقضة.
الواقع يقول لنا أمرين مهمين، أولا: أننا لا نستطيع تجاهل هذه الرسائل بالكامل باعتبار أنها أصلا تصل لنا بدون إرادتنا، كما أنها في بعض الأحيان تتعلق بقضايا مهمة وتعنينا بشكل مباشر. 
ثانيا: أن هذه الرسائل غير متسقة، وتصل في أحيان كثيرة إلى حد التناقض، وبالتالي لا يمكن قبولها جميعا، ولا بد من عملية الفرز بينها، وعملية الفرز هذه هي التفكير النقدي. 
اليوم شركة المشروبات الغازية ترسل لك رسائل لشراء منتجاتها، في المقابل شركات الماء ترسل لك أن المشروبات الغازية ضارة صحيا، وأنه يجب أن تشتري الماء نيابة عنها. قوانين الإعلان أحيانا تمنع المعلنين من نقد معلنين آخرين بشكل مباشر، لكن في الولايات المتحدة القانون يسمح بالهجوم المباشر بين المعلنين، وبالتالي تكون فكرة الرسائل المتناقضة أوضح لتجعل الإنسان أمام مهمة ضرورية لتحليل الرسائل واتخاذ القرارات المناسبة تجاهها. الرسائل المتناقضة ليست حصرا على الخطاب التجاري بل هي سمة في كافة الخطابات الأخرى. اليوم تصل لنا رسائل سياسية من أطراف متناقضة، كذلك تصل لنا رسائل من أطراف دينية متناقضة ومتصارعة. الحل أمام هذا التناقض هو التفكير النقدي والتمييز بين الخطابات إذا استبعدنا فكرة الاعتزال، والتي لا تتوفر كإمكانية للكثير منا.
التفكير النقدي بهذا الشكل هو موقف من التناقض وبدرجة أقل حدة موقف من الاختلاف. والموقف هنا موقف تواصلي بمعنى أن فرص التواصل مع المفكرين النقديين أعلى من غيرهم. وتأتي الفكرة كالتالي: المفكر النقدي منفتح على فكرة أن يقنعه الآخرون، وشرطه الوحيد أن تقدم له حجة سليمة. في المقابل من لا يفكر نقديا يرفض مسبقا أن يقتنع من الأطراف التي تم تصنيفها مسبقا عنده ضمن الجماعات المرفوضة، وبهذا يكون الانغلاق رفيقا لضعف قدرات التفكير النقدي. «إمبيريقيا» الفكرة السابقة لها أدلة تجريبية كثيرة، لكن ومن يواجه مشكلة مع التفكير النقدي، هو من يعلم أن رسالته لن تمر إذا تم تحليلها بشكل نقدي. مثلا شركات المشروبات الغازية تعلم أن تحليل دعاياتها نقديا سيفسد رسالتها، فالأدلة الصحية متوافرة على أن المشروبات الغازية مضرة صحيا، لكن هذه الشركات تستخدم شخصيات رياضية (نموذجا للصحة الجيدة) لترويج مشروباتها. الشركات هنا تستغل عوامل الجذب لتلك الشخصيات بسبب شهرتها وإعجاب الناس بمهارتها لتمرير رسالتها الأساسية: اشتر سلعتنا. 
التفكير النقدي في المقابل هو تمييز بين الأطروحات التي تقدم حججا وبين الأطروحات التي تستخدم إثارة مشاعر محددة. التفكير النقدي كما يوضح مؤلفا كتاب «التفكير النقدي: دليل مختصر»، تريسي بويل وجاري كمب، هو تمييز للحجة باعتبارها «دعوى مدعومة بدليل» عن الدعاوى الأخرى التي تسعى للتأثير العاطفي على مستقبلي الرسالة.
بهذا المعنى يكون التفكير النقدي وثيق العلاقة بطبيعة عصر الانفتاح والاتصال الذي نعيشه، وهو هنا فرصة لنقلنا من عالم الاتصال إلى عالم التواصل، باعتبار أن الحجج والبراهين تمثل المشترك الموضوعي بيننا. ليس من الجيد أن نختم المقال بفكرة جديدة، ولكن لعل هذه الخاتمة تعتبر مقدمة للمقالة القادمة.