صالح القلاب 

عندما يرفض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حل الدولتين، دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو (حزيران) عام 1967 ودولة إسرائيلية هي الدولة القائمة الآن، وعندما يرفض أيضًا حلَّ الدولة الديمقراطية، التي يعيش فيها الفلسطينيون والإسرائيليون جنبًا إلى جنب وبحقوق متساوية، وعندما يُلمح إلى حلٍّ إقليمي يوافق عليه دونالد ترمب بهز رأسه مرات عدة فإنه يصبح واضحًا أن المقصود هو إعادة الضفة الغربية المحتلة إلى الأردن ولكن بحجم أصغر كثيرًا من حجمها السابق.


كان الأردن عرض على قمة الرباط العربية عام 1974 أن تبقى الضفة الغربية «على ذمَّته» وبوضعها القانوني الذي بقي سائدًا منذ عام 1949 وقد تعهد أمام القادة العرب بعودتها إلى الشعب الفلسطيني بمجرد استعادتها لكن هذا الاقتراح لم يواجه بالاستجابة المطلوبة وتم تكريس منظمة التحرير، كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، وبالتالي فإنها تصبح المعنية بالضفة الغربية وبالمصير الذي من المفترض أن تنتهي إليه إنْ قريبًا وإنْ على المدى البعيد.
إنّ المعروف أن الأردن قد تخلى في عام 1988 وبصورة نهائية عن أي علاقة إدارية وقانونية له بالضفة الغربية بعدما اتخذ المجلس الوطني الفلسطيني في دورته التي انعقدت في الجزائر قيام دولة فلسطين مما يعني أن «وحدة الضفتين» قد أصبحت بحكم المنتهية بعد أربعة وأربعين عامًا وأنه لا عودة لهذه الوحدة طالما أَّنَّ العرب اعترفوا في قمة الرباط عام 1974 بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعيًا ووحيدًا للشعب الفلسطيني هذا الاعتراف الذي كان بمثابة إجماع عربي على الطلب من المملكة الأردنية الهاشمية إنهاء العمل باتفاق أريحا في عام 1949 الذي جعل ما لم يُحتل من الوطن الفلسطيني التاريخي جزءًا من المملكة الأردنية الهاشمية وبحيث أصبحت للشعبين الشقيقين دولة واحدة.
وبالطبع فإن الأردن قد بادر إلى رفض هذه المؤامرة التي اسمها «الحل الإقليمي»، وحيث فُهم اقتراح بنيامين نتنياهو على أنه عرض بإعادة الضفة الغربية، منقوصة ومجزأة ومطرزة بالمستوطنات وبأمن تابع لإسرائيل، إلى المملكة الأردنية الهاشمية، ولذلك ولأن الأردنيين بحكم تجاربهم المريرة في هذا المجال يعرفون أن الإسرائيليين إنْ هُم تحقق مطلبهم هذا فإنهم سيلجأون إلى التفريغ التدريجي لـ«الضفة» من سكانها وأنهم سيفعلون ما كانوا فعلوه في عام 1948 وفي عام 1967عندما بادروا إلى عمليات ترحيل جماعي من الغرب إلى الشرق وذلك رغم مقاومة الشعب الفلسطيني الباسلة.
كان الأردن قد استقبل أول دفعة من اللاجئين الفلسطينيين، في عام 1948 وحقيقة أن هذا قد شكل خللاً «ديموغرافيًا» في دولة فقيرة كانت تعتبر ناشئة رغم أن عمرها قد تجاوز الأربعين عامًا وكان الأردن قد استقبل الدفعة الثانية من هؤلاء اللاجئين ولكن كمواطنين أردنيين هذه المرة مما شكل خللاً جديدًا ولكن هائلاً في التركيبة السكانية وكان من الممكن أنْ يؤدي إلى كارثة فعلية عندما وقع صدام عام 1970 بين الجيش الأردني (الجيش العربي) والمقاومة الفلسطينية، لولا أن التلاحم الوطني كان متينًا بالفعل بين شعبين شقيقين أصبحا شعبًا واحدًا في حقيقة الأمر.
وحقيقة أن الأردن الذي يعاني الآن معاناة فعلية من كل هذا الخلل الديموغرافي في تركيبته السكانية بعد استقباله لكل هذه الملايين من الأشقاء اللاجئين السوريين والعراقيين واليمنيين وأيضًا الليبيين، فإنه لا يمكن أن يقبل أولاً بهذا «الحل الإقليمي» الذي طرحه بنيامين نتنياهو بموافقة دونالد ترمب للتخلص من خيار الدولتين الذي هو خيار أردني كما هو خيار فلسطيني. وثانيًا لأن المملكة الأردنية لم تعد تنظر إلى غرب نهر الأردن إلا من زاوية ضرورة تقديم الدعم الصادق لشعب شقيق من حقه على أشقائه أن يساندوه في أن يقرر مصيره بنفسه ويقيم دولته المستقلة؛ ولذلك فقد أكد الأردن على أن من حق أشقائه الذين هم تحت الاحتلال عليه مساندتهم ودعمهم بكل وسائل وأساليب الدعم، لكن العودة إلى صيغة ما قبل حرب عام 1967 وبخاصة كاقتراح إسرائيلي وكمخرج لإسرائيل من ورطتها، فإنه لا يمكن التفكير فيه حتى مجرد التفكير إلا بعد تحرير كل ما احتل من الأراضي الفلسطينية وبعد قيام دولة فلسطين المستقلة المنشودة.
إن هذه المسألة أصبحت محسومة ومنتهية بعد قرار قمة الرباط الشهير في عام 1974، الذي اعترف بمنظمة التحرير ممثلاً شرعيًا وحيدًا للشعب الفلسطيني، وبعد خطوة فك الارتباط (الإداري) في عام 1988 التي أقدم عليها الأردن بعد إعلان الأشقاء الفلسطينيين قيام دولتهم (المستقلة) خلال دورة المجلس الوطني آنفة الذكر في الجزائر التي كان إعلانها في ذلك الوقت المبكر تهيئة للمفاوضات اللاحقة التي أجروها مع الإسرائيليين بدءًا بمؤتمر مدريد الشهير وصولاً إلى اتفاقيات أوسلو المعروفة.
وهكذا، ومرة ثانية، فإن الأردن لا يمكن أن يقبل بما عرضه بنيامين نتنياهو في واشنطن حتى وما سماه «الحل الإقليمي» كبديل لحل الدولتين. وهنا فأغلب الظن أنه إذا أصبحت المفاضلة بين هذا الخيار البائس وخيار الدولة الواحدة فإنه أي الأردن، سيكون وإنْ على مضض مع الخيار الثاني ولكن على أساس أن تكون هذه الدولة الفلسطينية - الإسرائيلية الواحدة دولة ديمقراطية يتمتع فيها الفلسطينيون بالحقوق نفسها التي يتمتع بها الإسرائيليون وعلى أساس ألا يعاملوا كأقلية قومية ودينية. وذلك مع أنَّ هذا هو المر الذي لا أمرّ منه. أما ما يريده رئيس الوزراء الإسرائيلي فإن الأردنيين يرون أنه لن يكون إلا طعنًا للأشقاء الفلسطينيين في وجدانهم وتآمرًا عليهم ومساهمة في ضياع حقهم في إقامة دولتهم المستقلة التي اعترفت بها الأمم المتحدة واعترف بها العالم بمعظم دوله. وبالتالي فإن الحل، «الوحيد» كما قال العاهل الأردني، هو حل الدولتين.
إنه لا بد من التأكيد، مثنى وثلاث ورباع، على أن الأردن مع حل الدولتين، الذي يريده الأشقاء الفلسطينيون والذي أعلنت تأييدها له الأمم المتحدة ومعظم الهيئات الدولية الفاعلة وغالبية دول العالم، وإنه - أي الأردن - لا يمكن أن يقبل وعلى الإطلاق بهذه «الهدية» الإسرائيلية المسمومة، كما أنه لن يسمح لا لإسرائيل ولا لغيرها بافتعال مشكلة بينه وبين أشقائه الفلسطينيين إنْ هي تفجرت لا سمح الله وهي لن تتفجر أبدًا فإنها ستنتقل إلى شرق النهر الخالد، وحيث يتشكل الأردنيون من «أصول ومنابت» كثيرة وحيث لا تزال نسبة كبيرة منهم يعتبرون أنفسهم فلسطينيين وهذا بالطبع من حقهم ما دامت فلسطين محتلة.
في النهاية إنه لا بد من القول وبكل ثقة إن ما طرحه بنيامين نتنياهو في واشنطن كبديل لحل الدولتين هو مجرد صرخة مأزوم في واد عميق وإن القرار في هذا المجال لا هو قرار رئيس الوزراء الإسرائيلي ولا قرار الولايات المتحدة... إنه أولاً قرار الشعب الفلسطيني المتمسك بأرضه وبهدف قيام دولته المستقلة، وإنه ثانيًا قرار الأردن الذي لن يقبل بحلٍّ هو في حقيقة الأمر مؤامرة عليه وعلى أشقائه الفلسطينيين، وإنه أيضًا قرار العرب الذين يعتبرون أن قضية فلسطين هي أم قضاياهم، وأنه قرار معظم دول العالم الفاعلة التي لم تعد قادرة على السكوت عن كل هذا الذي يقوم به الإسرائيليون ويفعلونه.. .