سمير عطا الله

شعر الدكتور زكي نجيب محمود وكأن عدوًا طعنه في قلبه، وأبقى الحربة فيه، عندما قال طه حسين أوائل الستينات إن عاصمة الثقافة انتقلت من القاهرة إلى بيروت. كيف هذا يا عميد؟ هل في الجامعات، أم في الفلسفة، أم في الشعر، أم في الرواية؟ وكيف تقول إن في بيروت حرية أكثر مما في القاهرة؟ غير صحيح... غير صحيح.
وعاد بعده مصطفى أمين ليقول إن بيروت، لا القاهرة، أصبحت عاصمة النشر العربي. وأيضًا قامت الدنيا على الصحافي الكبير. هات، أثبت ما تقول يا مصطفى بيه. لكن الكاتب العملاق كان يعمل بالشعار الذي رفعه كامل مروة: «قل كلمتك وامشِ». وهكذا، ترك للغير أن يثبتوا إن كانت بيروت الصغيرة قد تقدمت، أم أن القاهرة لم تتخلف.
وأنت، ماذا تعتقد وقد مر على النقاش ألف عام؟ يا مولاي، اعفني من الجواب، فمن يدخل في جدل طه حسين وزكي نجيب محمود ومصطفى أمين؟ دعني فقط أقل لك ما أتذكر: في الستينات، كانت القاهرة مليئة باللاجئين السياسيين، ومن أشهرهم صدام حسين. المئات منهم، إما هربوا من حكّامهم، وإما جاءوا يتآمرون عليهم، ومن جميع أنحاء «الوطن العربي الكبير»، مغربًا ومشرقًا.
أما بيروت، فلجأ إليها الهاربون الحالمون، أحيانًا بسبب اضطهاد أو خوف، وأحيانًا مجرد التحاق بالكوكبة المثيرة. تفضل عدد: نزار قباني، وأدونيس، وبدر شاكر السياب، وبلند الحيدري، ونازك الملائكة، وعبد الوهاب البياتي، وإحسان عباس، ومطاع صفدي، وسلمى الخضراء الجيوسي، والصادق النيهوم، ومحمد الماغوط، وغادة السمان، إضافة طبعًا إلى محمود درويش، ذهبية فلسطين.
لا شك أنه في المعنى الثقافي، كانت بيروت، كما قال طه حسين، تتمتع بحرية أكبر من القاهرة تلك الأيام. فقد كانت عاصمة مصر تخضع نفسها لرقابات كثيرة بسبب وضعها المركزي ضمن أكثر من صراع آيديولوجي وقومي وسياسي. لكن هذا لا يلغي أنه فيما كانت بيروت تحتضن كل تلك الأسماء العربية الكبرى، كان «يداوم» في مبنى واحد في «الأهرام» رجال مثل نجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم، وخالد محمد خالد. كان فيها طه حسين، وصلاح عبد الصبور، وأحمد عبد المعطي حجازي، وأمل دنقل، وعباس محمود العقاد، وإبراهيم ناجي، ومن قصرت ذاكرتنا عن مكانته.
غير أنه في هذا النقاش حول المدينتين يبرز واقع ثالث، وهو أن الصراع حول المركز الثقافي انحصر بينهما، رغم عراقة العصور الأموية والعباسية، والسبب الأساسي طبعًا، كان الحرية. القيد ضد الفن..