محمد السلمي

ينبغي سؤال الدبلوماسية الإيرانية إن كانت تستطيع اتخاذ قرارات وتقديم ضمانات جادة دون العودة إلى الحرس الثوري ورموزه المتطرفة

من يتابع التصريحات الإيرانية المكثفة الأخيرة دون أن يتجاوز تلك القشرة الرقيقة التي يروج لها، والمبنية على أن طهران تسعى للتصالح مع دول الجوار العربي وتمد يدها إلى تلك الدول، يعتقد أن دول المنطقة تتجاهل النداءات الإيرانية، وتسعى للتصعيد مع طهران. لكن يجب طرح تساؤلين مهمين ومناقشتهما بعناية قبل الوصول إلى أي استنتاج أو إلقاء اللوم على جانب دون غيره. 
التساؤل الأول حول جدية هذا الطرح، ومدى استعداد الجانب الإيراني لتطبيقه على أرض الواقع، ودلالات عزم النظام الإيراني فعليا على تغيير سلوكه. أما التساؤل الثاني، وهو الأهم في رأيي، فهو: مع من في إيران ينبغي لدول المنطقة أن تتحاور: الحكومة الرسمية أم الحكومة الخفية، وأعني هنا الحرس الثوري وقياداته بزعامة علي خامنئي؟
لنتذكر بداية أن جميع التصريحات التي أُطلقت حول المصالحة المزعومة جاءت من حكومة روحاني فقط، وهي أشبه بسكرتاريا لا تملك اتخاذ القرار، بخاصة حيال السياسة الخارجية للبلاد. 
وإذا كانت هذه هي الحقيقة المرة التي قد لا يدركها كثيرون، فما دوافع هذه التصريحات؟
إن الهدف من وراء ذلك هو رسم صورة لدى دول العالم، بخاصة الدول الغربية، بأن طهران تسعى للحوار والتصالح لا التصادم مع جيرانها العرب، ولكن هؤلاء الجيران يرفضون ذلك ويسعون لاستمرار حالة التوتر والصراع القائم في المنطقة من خلال رفض تحقق ذلك، وهي بذلك تسعى لإلقاء الكرة في ملعب الخصوم العرب. لكن هذا الأمر يحتاج إلى تفنيده وكشفه أمام أولئك الذين انخدعوا بهذه المراوغة الدبلوماسية الإيرانية، ومن ثم إعادة الكرة مجددا إلى ملعب طهران لقطع الطريق أمام هذه المسرحية.
بداية ينبغي سؤال الدبلوماسية الإيرانية إن كانت تستطيع اتخاذ قرارات وتقديم ضمانات جادة دون العودة إلى الحرس الثوري ورموزه المتطرفة. التجارب السابقة، وعلى رأسها مفاوضات الملف النووي بين إيران ومجموعة 5+1، تؤكد أن الحكومة لم تستطع الالتزام دون أخذ موافقة الدولة العميقة في الداخل الإيراني. نتذكر جيدا أن ظريف وفريق المفاوضات النووية كان يعود إلى طهران خلال جولات المفاوضات ثم يعود في اليوم التالي، إما بالموافقة وإما بالرفض للقضايا المطروحة للنقاش. الأهم أن حكومة روحاني ليست من بدأ المفاوضات، بل حكومة أحمدي نجاد، وهذا يفند كل المزاعم التي قالت إن ما يُسمى بالحكومة «المعتدلة» هي من مهد الطريق للاتفاق النووي. الصحيح أن رغبة خامنئي في الخروج من الأزمة الاقتصادية والعزلة السياسية، واستشعار خطورة المرحلة، هو ما شجع على إنجاح الاتفاق، ولكن خامنئي كان يحتاج إلى وجه جديد وطرح مختلف في الواجهة الدبلوماسية للبلاد لتمرير ذلك المشروع.
قد يقول قائل: لماذا لا تكون المصالحة مع دول المنطقة العربية رغبة خامنئي أيضا؟ الجواب المختصر هو أن ملف التوسع الإيراني في المنطقة مشروع ليس وليد اللحظة، بل أحد أهم إستراتيجيات -لا تكتيك- ومرتكزات نظام ولاية الفقيه، في إطار تصدير الثورة، ووفقا لمواد الدستور الإيراني، ومن ثم فالأمر مختلف تماما عن موضوع عرضي كالبرنامج النووي. علاوة على ذلك، فإن من يدير ملف التدخلات الإيرانية في المنطقة بنسبة 100% هو الحرس الثوري، على عكس المشروع النووي. الأهم من هذا كله أن التدخلات الإيرانية والسلوك العدواني لنظام طهران أمر شديد التشعب والتقدم، والتراجع عنه يحتاج إلى تغير حقيقي في إستراتيجيات النظام، وهذا مرتبط، وفقا للرؤية الإيرانية، بالأمن القومي الإيراني، وهو -أي الأمن القومي- الملف الآخر الذي يُعد خامنئي صاحب القول الفصل فيه. 
بعبارة أكثر وضوحا، التفاوض العربي الذي يُثبت جدية النظام الإيراني يكون مع صانع القرار، لا مع السكرتاريا، وهذه إشكالية كبرى في الداخل الإيراني، فقبول طهران بذلك يعني اعترافها ضمنيا بأن الواجهة الدبلوماسية لا تملك القرار، ومن ثم سينعكس ذلك أيضا على تعاطي العالم مع النظام الإيراني سياسيا واقتصاديا، وهو انكشاف إيراني من شبه المستحيل أن يقبل به صانع القرار في طهران، وإذا ما قبل به فإن انعكاسات ذلك على الشأن الداخلي الإيراني ستكون كبيرة جدا، وقد تفوق التوقعات. الأمر الآخر أن رفض مثل هذا التفاوض يؤكد الأمر ذاته أيضا، ومن هنا تُعتبر المفاوضات مع طرف لا يملك القرار مجرد مضيعة لوقت الجانب العربي ونجاح للنظام الإيراني في كسب مزيد من الوقت ليقيم كثيرا من التوجهات الخارجية، بخاصة توجهات الإدارة الأميركية الجديدة في موقفها من إيران.
كل ذلك يكشف حقيقة أن النظام الإيراني غير جاد في توجهات الانفتاح على جيرانه العرب والتصالح معهم، ما لم يخطُ خطوات حقيقية على الأرض، بخاصة في ما يتعلق بميليشياته في العراق وسورية، وتدخلاته في اليمن والبحرين والسعودية ولبنان. لذا ستقبل دول المنطقة بالحوار والتفاوض عندما تتحقق مقومات بناء الثقة بين الطرفين، المبنية في المقام الأول على الأفعال لا الأقوال، بخاصة أن جميع المؤشرات حتى اللحظة لا تقود إلى تحققها، وعلى الدول التي تسعى للوساطة بين ضفتي الخليج العربي أن تتجه بداية إلى طهران قبل العواصم العربية، وتمتحن جدية النظام في هذه الاتجاه بعيدا عن التصريحات، حينئذ فقط تستطيع أن تحدد على من يقع اللوم في عدم الرغبة في المصالحة. 
بالمختصر المفيد، الكل يرغب في إنهاء الصراع القائم وبناء علاقات طبيعية بين إيران وجيرانها العرب، ولكن لنكون أكثر صراحة ووضوحا لنقول: من يُرد السعي في الوساطة، فعليه إحضار الالتزامات من الجانب الإيراني، أو الاقتناع بأن نداءات حكومة طهران بالانفتاح على دول المنطقة ما هي إلا محاولات لذر الرماد في الأعيُن، ليس ذلك فحسب، بل عليه أن يكشف ذلك للعالم من أجل التوقف عن إطلاق الأحكام المسبقة دون فهم حقيقة الأمر، ولماذا موقف الدول الخليجية والعربية واضح وصريح من شعارات روحاني وظريف الإعلامية، والإعلامية فقط.