فهمي هويدي

أخشى ما أخشاه أن تشكل قمة عمان العربية التي تعقد غدا منعطفا خطرا يجهز على ما تبقى من عصر «اللاءات» في مواجهة إسرائيل ويدخلنا في زمن «النَّعَمات»!

(١)

صحيح أن جدول الأعمال يتضمن ١٦ بندا كما صرح الأمين العام للجامعة العربية في أكثر من حديث صحفي، إلا أن كل الدلائل تشير إلى أن فلسطين هي البند الأساسي المعروض على القمة، وأن الـ١٥ بندا الأخرى مجرد «حواشي» عليه. فلا هي قمة توافق، ولا علاقة لها بالأمن القومي العربي، وربما تضمن بيانها فقرة إنشائية عن الإرهاب لا تضيف شيئا إلى ما هو حاصل. وأغلب الظن أنه سيتضمن فقرة تقليدية تحذر إيران وتندد بها. أما الحاصل في سوريا واليمن وليبيا فشأنه متروك للأمم المتحدة ومبعوثيها. وربما كان له نصيب من الإنشاء لملء الخانة وستر العورة.

إذا صح ذلك التحليل فإنه يعزز الانطباع بأن قضية فلسطين هي موضوع المؤتمر ومحوره. ولأنها كذلك، فقد توجست شرا من العنوان الذي نشرته صحيفة «الشرق الأوسط» (فى ٢٢/٣) ونقلت عن السيد أبوالغيط وصفه قمة عمان بأنها قمة «تصحيح المسار»، وهو ما يعنى ضمنا أن الأمة انتهجت طريقا خطأ، وصارت بصدد تصويبه. وأقلقني أن العنوان الأبرز الذي تخيرته الجريدة للحوار المطول الذي أجرى معه كان عن «مشروع فلسطيني جديد للحل». وإذ كان ذلك عنوان الصفحة الأولى، فإن الصفحة الثالثة حملت عنوانا مماثلا تحدث فيه صاحبنا عن «رغبة فلسطينية في إعادة صياغة أفكار الحل». وفى شرحه للفكرة نقلت الصحيفة عن السيد أبوالغيط قوله: إن السلطة الفلسطينية ستطرح على قمة عمان مشروعا جديدا للحل يتضمن إعادة صياغة بعض الأفكار للتسوية، على أن ينقل الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي الرؤية إلى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال اجتماعهما في واشنطن بعد أيام من ختام القمة.

(٢)

لأن حسم القضية لا يحتاج لأكثر من كلمتين هما «إنهاء الاحتلال»، فإن الكلام عن «مشروع جديد للحل» و«إعادة صياغة بعض الأفكار للتسوية» يبعث على الارتياب والقلق، فضلا عن أنه يطلق في أجواء غير مواتية. فالعرب في أضعف حالاتهم، وإسرائيل تمارس العربدة والاستعلاء وتحديها للجميع بما فيهم مجلس الأمن ذاته. والإدارة الأمريكية الجديدة تقف على يمين نتنياهو، من الرئيس ترامب إلى سفيره الجديد لدى تل أبيب. مرورا بزوج ابنته الصهيوني المتعصب المرشح لإدارة الملف الفلسطيني. وإذا أضفنا إلى ذلك التسريبات الإسرائيلية التي تتحدث عن خطط نتنياهو وأفكاره أو تلك التي تكشف أسرار وخلفيات علاقة إسرائيل مع بعض العواصم العربية. فإن القلق يصبح خوفا من احتمالات «نكبة ثانية» تلوح إرهاصاتها في الأفق. ولست مبالغا في ذلك لأن الشكوك حول ما هو قادم راجت وتواترت في الدوائر الدبلوماسية، وهو ما دفع زميلنا الأستاذ طلال سلمان رئيس تحرير صحيفة «السفير» البيروتية إلى الحديث في مقاله الأخير بـ«الشروق» (عدد ٢٢/٣) عن «قمة التنازلات الجديدة في عمان»، وإشارته الصريحة إلى الاختلاف الجذري الذي طرأ على وظيفة القمة العربية، التي بدأت سعيا إلى توحيد الصف العربي، ثم صارت مهمتها الوحيدة هي تنظيم ورعاية التنازلات العربية.

من المفارقات أنه بعد قرن من إطلاق وعد بلفور (نوفمبر ١٩١٧) عقدت في المرحلة الناصرية قمة الخرطوم (سبتمبر ١٩٦٧) وأعلنت اللاءات الثلاث (لا صلح ــ لا اعتراف ــ لا تفاوض). وهى لاءات صمدت لبعض الوقت ثم بدأت تتراجع بعد زيارة السادات لإسرائيل وتوقيعه معاهدة السلام معها عام ١٩٧٩، وبعد تورط الفلسطينيين في اتفاقية أوسلو عام ١٩٩٣، إلى أن انكسرت اللاءات في قمة بيروت (٢٠٠٢) . وكان أخطر ما فيه أنه عرض التطبيع العربي الكامل مع إسرائيل مقابل انسحابها الكامل من الأراضي العربية المحتلة. وتلك كانت المرة الأولى التي تعرض فيها الدول العربية إمكانية تحول إسرائيل إلى «دولة شقيقة»، مع تجاهل الحديث عن عودة اللاجئين إلى بلدانهم التي طردوا منها. ثم شاءت المقادير أن تعقد قمة عمان هذا العام (٢٠١٧) بعد خمسين سنة من قمة الخرطوم (عام ١٩٦٧)، ليعرض عليها سيناريو جديد يشاع أنه يلغى «اللاءات»، ويرشح بدلا منها قائمة من «النَّعَمات» التي تهدد مصير القضية.

(٣)

ليس ذلك استنتاجا. لأن القرائن المتوافرة تدل عليه. وقد كان عقد قمة العقبة السرية التي عقدت قبل عام وعلمنا بها من إسرائيل كاشفا في هذا الصدد. ذلك أن محرر «هاآرتس» بارك رفيد الذي أذاع السر ذكر في تقرير له نشر في ١٩ فبراير الماضي أن الإدارة الأمريكية سعت إلى ترتيب ذلك اللقاء لتحريك الجمود الذي ران على المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية. خصوصا أن نتنياهو كان قد تعهد للرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما أواخر عام ٢٠١٥ باستعداده للتوصل إلى حل للصراع في إطار «تسوية إقليمية». وكانت خطة نتنياهو مبنية على الاستفادة من الاختراقات التي قامت بها إسرائيل لبعض الأقطار العربية إضافة إلى الوهن والتشتت المخيمين على العالم العربي. وأراد أن يوظف ذلك العامل لكي يصبح عنصرا مساعدا في الضغط على الفلسطينيين وإرغامهم على التحلي بـ«المرونة» التي تنشدها إسرائيل في التوصل إلى اتفاق لحل القضية.

مما ذكره المحرر الإسرائيلي نقلا عن مساعدي وزير الخارجية السابق جون كيري أن الرجل ظل طوال عام ٢٠١٥ يحاول أن يجمع بين نتنياهو وأبومازن لاستئناف المفاوضات المجمدة، لكن الأول أحبط جهوده، وتمسك بالمراهنة على الحل الإقليمي. إزاء ذلك استجاب الأمريكيون لرغبة نتنياهو، وأجروا اتصالات مع «أصدقائهم» في المنطقة لترتيب لقاء العقبة لبحث الموضوع. في اللقاء الذي تم في شهر مارس من العام الماضي وشارك فيه الرئيس السيسي ونتنياهو والملك عبدالله، طرح فيه جون كيري مبادرته للحل. وفهم أن أفكار تلك المبادرة نالت موافقة العواصم العربية المعنية، وأن تحريكها متوقف على قبول إسرائيل بها.

وإذ يفترض أن مبادرة كيري تستند إلى فكرة «حل الدولتين» على أساس حدود عام ١٩٦٧، فإنها من الناحية العملية تضمنت بنودا حولت فكرة الدولة الفلسطينية إلى صيغة مشوهة لنموذج الحكم الذاتي. وطبقا للنص الذي تم تسريبه، وأورده الدكتور صالح النعامي خبير الشؤون الإسرائيلية فإن المبادرة انطلقت من قبول العالم العربي بتسوية الصراع بما يلبى «الاحتياجات الأمنية لإسرائيل ويضمن تمكينها من الدفاع عن نفسها». وعند ترجمة هذا البند استنادا إلى المعايير الإسرائيلية ــ فإنه يعني استعدادا فلسطينيا للتنازل عن مساحات من الأرض في الضفة الغربية، ترى إسرائيل أن الاحتفاظ بها يعد من الاحتياجات الأمنية لها. ومعلوم أن جميع الأحزاب المشتركة في الائتلاف الحاكم وكذلك المعارضة تعارض الانسحاب من منطقة «غور الأردن»، التي تشكل نحو ٢٨٪ من الضفة الغربية، بحجة أن الاحتفاظ بهذه المنطقة يقلص قدرة أي طرف على مباغتة إسرائيل بشن هجوم من الشرق.

من ناحية أخرى فإن نص المبادرة على ترتيبات أمنية تحسن من قدرة إسرائيل على الدفاع عن نفسها يعنى قبول الدول العربية بأن تكون الدولة الفلسطينية بلا سيادة على حدودها. إذ إن المنطق الصهيوني يرى أن ضمان حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها يتطلب بسط السيطرة على الحدود مع الأردن. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن المبادرة تقر باحتفاظ إسرائيل بالتجمعات الاستيطانية الكبرى التي تتمدد على ١٢٪ من مساحة الضفة الغربية، فإن ذلك يعنى عمليا تنازلا فلسطينيا مسبقا عن ٤٠٪ من الضفة.

أضاف الدكتور النعامي أن المبادرة تحدثت عن ضم إسرائيل للتجمعات الاستيطانية ضمن صيغة تبادل الأراضي مع الفلسطينيين. لكن الأراضي التي تبدي إسرائيل استعدادا للتنازل عنها تتمثل في منطقة «المثلث» التي تضم ثقلا سكانيا معتبرا للفلسطينيين، الأمر الذي يعد ترحيلا مقنعا ومقننا لهم وتخفيفا من الوجود الفلسطينى في إسرائيل.

لا يقف الأمر عند ذلك الحد، لأن كيري أبلغ نتنياهو موافقة العرب على «الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية وضمان الحفاظ على طابعها الأساسي» الأمر الذي يعنى إضفاء شرعية على كل ما يتطلبه الحفاظ على ذلك الطابع، ويقطع كل صلة متبقية للفلسطينيين ببلادهم! ليس ذلك أعجب ما في الأمر، لأن الأعجب أن نتنياهو هو من رفض المبادرة التي عرضها جون كيري بعد حصوله على موافقة العرب عليها! وهو ما عرض رئيس الوزراء الإسرائيلي لانتقاد واسع النطاق من قبل المعارضة، التي اعتبرت أنه ضيع فرصة تاريخية لبلاده كان يتعين اقتناصها!

(٤)

إذا لاحظت أن ذلك كله حدث أثناء حكم الرئيس باراك أوباما، الذي قيل الكثير عن توتر علاقته بنتنياهو، فلك أن تتصور سقف طموحات الأخير في ظل الإدارة الأمريكية الجديدة. ليس لدي معلومات بهذا الخصوص. لكن المؤكد حتى الآن أمران، أولهما أن نتنياهو رفض العرض السخي والمذهل الذي قدمه جون كيري. الأمر الثاني أن الأمين العام للجامعة العربية ذكر أن القمة سيعرض عليها مشروع فلسطيني جديد للحل، وأن هناك رغبة فلسطينية في «إعادة صياغة أفكار الحل». وهو ما يدعونا إلى التشاؤم، الذي يعززه التحيز الصارخ والمعلن لإسرائيل من جانب الرئيس الأمريكي الجديد الذي يعتبر أن الانتصار لها قضية شخصية وعائلية أيضا. أضف إلى ذلك أن إحباطاته المتوالية في الداخل تحثه على أن يحاول تحقيق أي إنجاز في الخارج. وفى هذه الحالة ستكون القضية الفلسطينية أولى ضحاياه.

حتى أكون أكثر دقة فإنني أعترف بأن العالم العربي في علاقته بإسرائيل تجاوز بالفعل عصر اللاءات، لكنه انتقل في العلن حينا وفى السر أحيانا إلى مرحلة «النَّعَمات» التي يجتمع في ظلها الخصام مع الغرام. (صحيفة «معاريف» نشرت في ٣١/٥/٢٠١٦ أن بين الزعماء العرب الذين لا يزالون يتحدثون عن أولوية القضية الفلسطينية من يجري اتصالا هاتفيا مع نتنياهو مرتين أسبوعيا). وهذا «التقدم» يمهد للانتقال إلى طور «النَّعَمات» الذي باتت الظروف مهيأة له، قُطْريا وإقليميا ودوليا. أما شعبيا فذلك هو المجهول الذي نراهن عليه ولا نستطيع التنبؤ به.

أدعو الله أن يخيب ذلك الظن، بحيث تصبح مسألة «النعمات» فرية أقرب إلى كذبة أبريل!