صلاح سالم

وقعت حوادث إرهابية أدمت قلوب الجميع في مصر، أقباطاً ومسلمين، فأسرعت الدولة إلى فرض قانون الطوارئ، وأسرع البرلمان إلى الموافقة من دون أن يناقش أو يراجع أو يصوب، أو يطرح مجرد تساؤل حول الرسالة التي تحملها حالة الطوارئ إلى العالم عن قدرة مصر على مواصلة الحياة الطبيعية، على تلقي السياح وتأمينهم، واستقبال الاستثمارات وحمايتها. وأيضاً عن جدوى إعادة فرض قانون ظللنا محكومين به طوال ستة عقود كاملة، فلم يتوقف الإرهاب أبداً ولم تتقدم مصر خطوة واحدة على طريق مواجهته.

نعم، نجحت في خوض جولات ناجحة في صراعها معه نهاية السبعينات، ومطلع الثمانينات، ثم أواسط التسعينات، بدا معها وكأن حدته تراجعت أو أن شوكته كُسرت، لكنه سرعان ما عاد أشرس مما كان، بعد أن جدد الإرهابيون دوافعهم الآثمة، فيما لم تتعلم الدولة من أخطائها أو تجدد دوافعها المشروعة في العدالة والتحرر. 

لقد واجهت مصر الإرهاب دوماً باسم الاستبداد لا الحرية، بهدف قمع المختلفين ثقافياً والمعارضين سياسياً وإن على هامش ردع الإرهابيين الخطرين أمنياً، ومن ثم ازداد القهر دوماً ووجد الإرهاب بيئة تحتضنه وروافد تغذيه. واجهناه بسلاح الأمن وحده ولم نجرب يوماً، عبر أربعة عقود على الأقل، سلاح العدالة التي تمنح للبؤساء أملاً في غدهم، والفقراء اطمئناناً على قوت يومهم. 

لم تعِ مصر أبداً ذلك الدرس البسيط وهو أن كل بيئة تفتقد للعدالة والحرية إنما تتحول إلى بركة آسنة، يملأها العفن، وتسكنها الديدان، ومن ثم تصبح عرضة للانفجار بشتى أنواع الأوبئة، ولعل هذا ما يفسر كل مظاهر القبح البادية، وكل أشكال الجريمة الصاعدة، في ظل تقلص فضائل التمدين الموروث ونمو رذائل العشوائية الزاحفة.

يحدث ذلك لأن الدولة لم تعد حاضرة في حياة المواطن إلا على سبيل القمع والضبط وليس على سبيل القيادة والإلهام، لأن جزءاً كبيراً من طاقة الأمن صارت تهدر في الفضاء السياسي حصاراً للأحزاب ومنظمات المجتمع المدني الفاعلة، بل في ترتيب القنوات الإعلامية وصوغ السياسات العامة، وصولاً إلى الفتك بكل من يملك موقفاً أو يعلي صوتاً مغايراً لصوت القطيع، بالتصنت عليه وتشويه سمعته وتهديم صورته العامة لفض الناس عنه أو إخراجه من المجال العام، خصوصاً لو امتلك أية مقومات للمنافسة السياسية. 

ولو أن نصف الجهد الذي تبذله الأجهزة الأمنية في محاولة نزع السياسة من المجال العام قد بذل في مواجهة الإرهاب جمعاً للمعلومات، وتخطيطاً للعمليات، واستباقاً للتحركات، لكانت الدولة الآن في موقف أفضل كثيراً من مجرد رد الفعل، ووفرت الكثير من الدماء والأرواح.

فالبادي أن موجة الإرهاب الراهنة أقرب إلى عالم السياسة منه إلى فضاء الدين، بمعنى أنها تتأسس على ذرائع عملية ومطالبات سياسية مباشرة أكثر منه على قراءات فقهية تقليدية للنص الديني كإرهاب الثمانينات والتسعينات. فإرهابي اليوم لم يقرأ المعالم لسيد قطب ولا الفريضة الغائبة لعبدالسلام فرج، ولا تحركه مواقف اعتقاديه صلبة على نحو ما كان قبلاً، بل تحركه نزعات عبث ورغبات احتجاج ونوازع تمرد، تتغطى بقشرة معرفة دينية تنغمس في وسائط تواصل داعشية جاهزة لتلبية حاجات أطياف واسعة من متمردين وعابثين ومحتجين. 

ففي مجتمع توارت فيه الثقافة، وصارت فيه الفنون مبتذلة تروج لبطل أسطوري يقتات على أشكال مختلفة من البلطجة ومقاومة السلطة والخروج على الأعراف والقوانين، لا بد أن تذبل أرواح الناس وتتخلف أذواقهم. 

ولأن المجتمع غالباً ما يصبغ متمرديه بصبغته، كانت ظلامية سيد قطب والمودودي معادلاً لاستنارة العقاد وطه حسين، وكانت فريضة عبدالسلام فرج نقيضاً لأولاد حارة نجيب محفوظ. فالمجتمع المستنير آنذاك كان يجبر العابثين على انتهاج طرق صعبة لتبرير عبثهم، أما المجتمع السطحي الآن فلا يحتاج العابثون فيه إلى بذل جهد كبير في فهم الموروث القديم ولا التمسح بفقه متشدد. فمثلما يتلقى العموم جذور ثقافتهم من وسائط التواصل، يتلقى هو روافد عبثه منه، سطحية بسطحية، وخواء مقابل خواء.

هنا لا بد من طرح مطلب الإصلاح السياسي مع الديني، بل قبله، فحيث الاستبداد قائم، والأمن مهيمن، فيما العقل ذابل، والحرية غائبة، والقضايا الكبرى يديرها أهل ثقة بعيداً من العقول الكبرى والرجال الأحرار، لا يرجى إصلاح الدين الذي يظل عطبه من عطب السياسة. 

فالدولة المصرية إذ تجتهد في اقتلاع كل ما يرمز إلى حدث 25 كانون الثاني (يناير)، وفي الخلاص من نخبة 30 حزيران (يونيو) الأكثر تجذراً في هذا الحدث وإصراراً على الحرية، وثوراناً على الإخوان كجماعة دينية طلباً للديموقراطية، فإنها لا بد من أن تهادن السلفيين، وأن تصبر على ياسر برهامي الذي يمثل وحدة إنتاج تطرف مذهل، يفتي كل يوم وفي كل مناسبة باضطهاد الأقباط، ويزدري دينهم العظيم، من دون أن يسائله أحد يوماً، أو يودع سجناً كما حدث لإسلام بحيري، بل يُسمح له بالخطابة على منابر الأوقاف الرسمية. 

لم تواجهه الدولة لأنها تحتاج إلى تياره بعد أن فقدت نصيرها المدني، الذي يطلب الحرية فيما هي ترفضها وترفضه، ولا يمكن الدولة أن تواجه التطرف السلفي والإخوان المسلمين معاً وهي تعادي نخبتها برفض الحرية وتجميد السياسة، كما تعادي الجماهير العريضة بغياب حس العدالة الاجتماعية، وفقدان الرشد الاقتصادي، والميل إلى تحميل عبء الإصلاح الاقتصادي لكاهل الفقراء، فيما تبدي تردداً وعجزاً هائلين عن مواجهة الكبار. 

ومن ثم فلا بد لمطلب الإصلاح السياسي أن يواكب بل يسبق الإصلاح الديني، فمعظم المظالم القائمة اليوم مصدرها الدولة لا الدين، السلطة السياسية لا الأزهر الذي بات جل المثقفين والإعلاميين في مصر، في حال من النفاق الرخيص، يرمون عليه وحده مسؤولية الإرهاب، متجاهلين مسؤولية الدولة الرافضة عملياً لفتح المجال العام، وتنشيط العمل السياسي، وحتى القرار الإيجابي الذي اتخذه الرئيس السيسي في مؤتمر الشباب بالإفراج عن غير المدانين بارتكاب جرائم، وقفت بيروقراطية الدولة في مواجهة تنفيذه حتى فرغته من مضمونه وأزهقت الرسالة المقصودة منه إلى المجتمع والعالم وهي أن مصر تتغير.


* كاتب مصري