عبد الله المدني

في أثناء حملاته الانتخابية للفوز برئاسة الولايات المتحدة في العام الماضي تبنى مرشح الحزب الجمهوري دونالد ترمب، الذي توقعت استطلاعات الرأي خروجه مهزوما، جملة من الشعارات والوعود. بعض هذه الشعارات أغضبت العرب والمسلمين مثل توعده بطردهم من الولايات المتحدة وعدم السماح لهم بدخولها، ومثل التزامه بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس وإشادته بديمقراطية إسرائيل وسجلها في حقوق الإنسان، لكن بعضها الآخر لاقى استحسانا في العواصم العربية الحليفة لواشنطن لأنه كان ذا صلة بالملفات الشرق أوسطية الملتهبة التي فشل الرئيس السابق باراك أوباما في التعاطي معها بجدية فكانت النتيجة اهتزاز ثقة تلك العواصم بالإدارة الأمريكية للمرة الأولى.

لقد بدا واضحا من حملات ترمب ووعوده أنه بصدد إحداث نقلة في سياساته الخارجية يعيد بها هيبة بلاده ومكانتها على الساحة الدولية ـــ إن قدر له دخول البيت الأبيض ـــ وذلك من خلال سلسلة من القرارات المناقضة لقرارات سلفه الذي عرف بتخبطه وتردده على مدى ثماني سنوات عجاف، ورضوخه لسطوة اللوبي الإيراني بقيادة هوشنك أمير أحمدي رئيس المجلس الوطني الإيراني ـــ الأمريكي. هذا اللوبي الذي تعاظم دوره ونفوذه كثيرا في سنوات أوباما.

وبقدر ما حبس المراقبون أنفاسهم يوم ظهور نتائج انتخاب الرئيس الأمريكي الـ 45 خوفا من فوز ترمب الموسوم بالتطرف والعنصرية وقلة الخبرة السياسية، فإنهم بالقدر نفسه حبسوا أنفاسهم بعد إعلان فوزه رسميا وطوال الأشهر التالية تحسبا لما سيتخذه من قرارات سياسية يترجم بها وعوده الانتخابية، خصوصا بعدما اختار لمعظم المناصب القيادية الحساسة شخصيات عسكرية معروفة بتصلبها، في مقدمتها وزير الدفاع جيمس ماتيس عدو الإيرانيين وأكثر المطلعين على أنشطتهم التخريبية، بفضل عمله السابق في العراق وأفغانستان.

فماذا نقرأ الآن بعد مرور المائة يوم الأولى على فوز ترمب، وهي مدة اتخذت منذ عهد الرئيس الأمريكي الأسبق فرانكلين روزفلت في ثلاثينيات القرن الماضي كمقياس للقيام بعملية تقييم أولية مبكرة لما ستكون عليه السنوات التالية من حكم أي رئيس وطريقة وأسلوب إدارته للشؤون الداخلية والخارجية؟ علما أن البعض يقول إن مدة المائة يوم غير كافية في هذا الشأن.

الحقيقة أن ترمب نفذ الجل الأعظم مما التزم به على الصعيد الخارجي مع استثناءات قليلة ما زال النقاش دائرا حولها، مثل الموقف من الصفقة النووية مع طهران التي وعد الرجل خلال حملته الانتخابية بتمزيقها بمجرد فوزه، بل وصفها بأسوأ اتفاق لأنها لم تأخذ مصالح الولايات المتحدة ودول الخليج في الاعتبار. 

لكنه يبدو اليوم أكثر ميلا للإبقاء على الاتفاقية مع إعادة التفاوض على بعض بنودها بهدف ممارسة مزيد من الضغوط والعقوبات على النظام الإيراني كي يكف عن زعزعة الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط والعالم. وأخيرا أعلن وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون أنه طالب الكونجرس بتوجيه الأجهزة الحكومية المعنية لمراجعة ما إذا كان قرار أوباما برفع العقوبات عن إيران بموجب الصفقة النووية يخدم مصلحة الأمن القومي الأمريكي أم لا؟

من خلال متابعة السياسات الترمبية حتى ساعة كتابة هذه السطور يمكن أن نلاحظ عليها أنها:

ـــ نقيضة تماما لسياسات سلفه باراك أوباما الداخلية والخارجية، ناهيك عن تميزها بالحزم والحسم السريعين بعيدا عن التخبط والتردد.

ـــ تراعي في الدرجة الأولى مصالح الولايات المتحدة وإعادة الهيبة لدورها العالمي، ولا بأس من انتهاج البراغماتية سبيلا للوصول إلى الهدف المنشود.

ـــ ملتزمة بالدرجة الأولى بمحاربة الجماعات الإرهابية المتطرفة، وعلى رأسها تنظيما داعش والقاعدة، وقد تجلى هذا عمليا في إنزال قوات أمريكية على أرض اليمن للمرة الأولى في يناير المنصرم لمطاردة بعض رموز القاعدة، وضرب مواقع لداعش في أفغانستان في نيسان (أبريل) 2017 بـ "أم القنابل"، ناهيك عن استهداف مواقع ميليشيات داعش وحلفائها في سورية والعراق واليمن.

ـــ جادة في إعادة الدفء إلى علاقات الولايات المتحدة مع حلفائها العرب التقليديين، وذلك من خلال الالتزام بأمنهم وحمايتهم، وإرسال رسائل واضحة إلى النظام الإيراني مفادها أن عهد السكوت على سياساتهم التوسعية المهددة للأمن والاستقرار قد ولى. وقد تجلت إحدى هذه الرسائل في إعادة إرسال المدمرة الأمريكية الشهيرة "كول" إلى السواحل اليمنية للمرابطة أمام السواحل اليمنية لحماية الممرات المائية الدولية من المسلحين الحوثيين، وأيضا لمنع وصول الإمدادات العسكرية الإيرانية بحرا لهذه الجماعة المتمردة على الشرعية والعابثة بالقانون الدولي.

ـــ صارمة في التعامل مع الأنظمة المارقة التي تقتل شعوبها كنظام الأسد في دمشق، أو تلك التي تهدد جاراتها بالأعمال الحربية الطائشة، كنظام كيم جونج أون في كوريا الشمالية. وقد تجلى هذا في قصف قاعدة الشعيرات الجوية السورية المسؤولة عن قتل أطفال خان شيخون بالسلاح الكيماوي، وتهديد نظام بيونجيانج بالإبادة إن استمر في تجاربه النووية والصاروخية. يضاف إلى ما سبق وضع مزيد من الكيانات والشخصيات الضالعة في القتل والإرهاب والمنتمية إلى الحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني على القوائم السوداء وفرض العقوبات وتشديد الخناق عليها.

ـــ مستعدة للتراجع عن بعض الشعارات والوعود التي صاحبت الحملات الانتخابية كثمن لاحتواء غضب بعض الحلفاء، التراجع عن مسألتي ترحيل العرب والمسلمين ومنع دخولهم، ومسألة نقل السفارة الأمريكية إلى القدس مثالا، أو كثمن لتفادي اندلاع حرب شاملة، والتراجع عن التصلب مع الصين مقابل بذل بكين مساعيها مع بيونجيانج للتعقل والكف عن ارتكاب الحماقات مثالا.