طوني فرنسيس 

أكبر من مؤتمر وأبعد من لقاء روحي ديني إسلامي مسيحي. تلك هي الفكرة الأساسية التي يخرج بها المتابع لمؤتمر الأزهر من أجل السلام الذي نظمه الأزهر الشريف في القاهرة يومي الخميس والجمعة وتوج بوصول البابا فرنسيس إلى الأزهر ليلقي كلمة الختام إلى جانب كلمة الإمام الأكبر، شيخ الأزهر ورئيس مجلس الحكماء المسلمين الدكتور أحمد الطيب.

لقد جعلت المناسبة ونوعية الحضور في المؤتمر منه حدثاً فريداً بل وتاريخياً. ولم تأتِ صفة تاريخية المناسبة عرضاً، فتجمّعت عوامل عدة سمحت بالقول إن نجاح القمة المسيحية– الإسلامية في العاصمة المصرية القاهرة يمثل رداً مناسباً ليس فقط على محاولات استغلال الدين الإسلامي ووصمه بالإرهاب، وإنما أيضاً على تصاعد الأشكال الغوغائية للشعبوية في الغرب واستغلالها «الإسلاموفوبيا»، وعلى تجار السلاح والدول التي تدعم الإرهاب، كما على المباعدين بين الأديان، خصوصاً المسيحية والإسلام.

نجح البابا فرنسيس والشيخ أحمد الطيب في خطابيهما وعناقهما تحت قبة الصرح الإسلامي المصري العالمي العريق، في استعادة الدفء إلى علاقات الأزهر والفاتيكان. كانت تلك العلاقات انقطعت تماماً في زمن البابا السابق بينيديكتوس بسبب تصريحاته في جامعة فرايبورغ عام 2006 ثم إثر الاعتداء على كنيسة الإسكندرية في 2011، إلا أنه بعد انتخاب البابا فرنسيس والمواقف الإنسانية التي أعلنها وعمل بها، بدءاً من رفض تحميل الدين الإسلامي أو أي دين مسؤولية الأعمال الإرهابية، وصولاً إلى احتضانه المهجرين والمظلومين، خصوصاً من البلدان العربية والشرق أوسطية، بادر شيخ الأزهر إلى معاودة التواصل مع الفاتيكان وزار البابا فرنسيس في 2015 واتفقا على وصل ما انقطع وبادر الطيب البابا بفكرة عقد مؤتمر من أجل السلام والحوار يعقد في القاهرة، فوافق على الفور وبدأت الاستعدادات.

العلاقات بين الفاتيكان والدولة المصرية لم تنقطع، فهي قائمة على المستوى الديبلوماسي منذ عام 1947، أي أن زيارة البابا صادفت مرور سبعين عاماً على هذه العلاقة، غير أن احتدام الصراعات وتصاعد موجات الإرهاب في السنوات الأخيرة وتعرض مصر نفسها لهجمات إرهابية مميتة جعل تطوير العلاقة بين القيادتين الدينيتين المسيحية والمسلمة في الأزهر والفاتيكان أمراً ملحاً... وإلى دعوة الطيب للبابا لزيارة مصر جاءت دعوة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية والكاثوليكية وتوجت هذه الدعوات بدعوة رسمية من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.

وفيما كان الفاتيكان يراكم مواقفه الصريحة، كان الأزهر يعمل على خط مماثل في التقريب بين الأديان وتكريس لغة الحوار. وفي شباط (فبراير) الماضي عقد مؤتمراً مهماً مسيحياً إسلامياً خرج بإعلان يتبنى المواطنة ودولتها بديلاً ورداً على الدعوات المتطرفة في شأن قيام الدولة الدينية والمذهبية التي تشتت مواطنيها وتدفعهم إلى التناحر والصدام وتعمم منطق التكفير وبالتالي الإرهاب، والإضافة التي قدمها مؤتمر الأزهر الراهن تمثلت بجملة وقائع يمكن إجمالها كالتالي:

- تمكن الأزهر ومعه الكنيسة المصرية من عقد اجتماع للقيادات الدينية الإسلامية والمسيحية على المستوى العالمي قد يكون فريداً من نوعه خصوصاً على المستوى المسيحي. إسلامياً جمع المؤتمر سنّة وشيعة ودروزاً ورابطة العالم الإسلامي وعلماء من السعودية وإندونيسيا ولبنان والمغرب العربي ودول عربية وإسلامية أخرى. ومسيحياً جمع قادة الطوائف المسيحية في مصر والدول العربية إلى جانب ممثلي الكنائس في أميركا وأوروبا، وحضر البطريرك برتلماوس بطريرك القسطنطينية (روما الشرق كما هو لقبها الكنسي) وممثلو الكنيسة الإنجيلية ومجلس الكنائس العالمي، إلى جانب مسؤولي جامعات مسيحية أوروبية وسانت إيجيديو الإيطالية مركز الحوار والتلاقي.

- هذا الجانب المسيحي من الحضور كان لافتاً، إذ إن صعوبات كثيرة أعاقت في الماضي اجتماعات بين أقطاب الكاثوليكية والأرثوذكسية، لكن الصعوبات ذُلّلت في مصر وجاء البابا فرنسيس ليختم بـ «السلام عليكم» فألهب جمهور الختام مشايخ وأساقفة ومواطنين.

- حاول كثيرون أن يقنعوا البابا فرنسيس بإرجاء زيارته، خصوصاً بعد تفجير كنيستي طنطا والإسكندرية. إلا انه أصر على الزيارة في موعدها ووجّه رسالة محبة وسلام إلى المصريين قبل وصوله ورفض في القاهرة استعمال سيارة مصفحة. كانت مصر منشغلة بأمن الزيارة وكان همه تعزية المسيحيين والمصريين جميعاً باعتبارهم ضحية إرهاب يطول الجميع.

- بهذا المعنى اعتبرت القيادة السياسية المصرية الحضور القيادي الديني الكثيف وزيارة البابا فرنسيس إشارة ثقة بمصر، بأمنها واستقرارها وبمستقبلها، خصوصاً أنها تعاني بسبب التهديدات الإرهابية وانحسار قطاع السياحة من مصاعب جمة...

كان القادم من روما، بما يمثله كرأس لكنيسة تضم أكثر من بليون ومئتي مليون مؤمن، البابا الكاثوليكي الأول الذي يزور الأزهر وفيه يعانق شيخه ويحادث طلبته. لم يحصل ذلك منذ قيام الأزهر قبل ألف عام. وفي الأزهر نفسه تحدث البابا مختتماً المؤتمر من أجل السلام في العالم وسبقه إلى الكلام الإمام الطيب... وعندما انتهيا شعرا كأنهما يلقيان الخطاب نفسه بالهموم والعناوين التي يهجسان بها: الدين محبة وخير وتقارب بين الناس، وليس أداة تحريض واستغلال.