بكر عويضة 

القول إن كل غطرسة توصل، بالضرورة، لكارثة ما، إنْ مباشرة أو بعد حين، ليس جديداً. هو، من جهة، قولٌ موثق في نصوص سماوية ومواثيق أرضية. وعملياً، يُبرهن صحة القول أكثر من فعل مورس على الأرض من قِبل أناس كُثر، عاشوا ثم هلكوا بين أمم خلت من قبل. منهم من حَكم بمنطق الطاغوت فدام طغيان حكمه سنوات عجافاً، ظن أنها سوف تدوم طوال قرون، لكنه انتهى إلى زوال، بعدما اشترى سوء التغطرس على الناس، بفضيلة التواضع لهم، فما كسب حبهم، وإذ روّع بطشه أمنهم، هشوا له بوجوههم ونقموا عليه في قلوبهم. ذلك وضع كل من يتّبع الغَرورَ، فيدمن الغُرور. وما هذا بحكر على مسؤولين وصناع قرار. كلا، واقع الحياة اليومية يثبت وجود أناس عاديين، ينفخ في رؤوسهم غرور التصنُّع فيستمرئون الخداع. تعجبهم معاندة الصواب بعدما أعجبتهم صورة كاذبة رسموها لأنفسهم في مخيلتهم، فظنوا أنها ما ينظرون في المرآة. يلغ أحدهم في الأخطاء حتى تصير خطايا. كلما نُصِح الواحد منهم بأن استقمْ خيرٌ لك، زعم أنه ما بُلّغ من قبل بسديد قول. تراه يُخَيّل إليه أنه خارقٌ الأرض أو بالغٌ الجبالَ طولاً. هذا النوع من الناس هم أكثر خطراً على أنفسهم وظلماً لها، ثم بالضرورة لغيرهم، من بعض مسؤولين كبار. أمن عجب في ذلك؟ كلا، فمن لبس ثوب الغطرسة، تتلبّس الكارثة، تليها الأسوأ منها، سوء أعماله ونتائجها.


بيد أن التأثير الفردي لغطرسة الشخص يظل أهون وأقل ضرراً على مجمل بلد ما، أو حزب يحكم بأي مجتمع، من عجرفة المتحكم في موقع القرار والمسؤولية. في هذا السياق، يمكن القول إن تيريزا ماي، رئيسة الحكومة البريطانية، وقعت في فخ غطرسة سياسية، إذ حاولت استنساخ فصل من تاريخ بلدها يحمل اسم مارغريت ثاتشر، وما تركت من إرث سياسي سوف يبقى موضع بحث واسترجاع، كلما وقع حدثٌ يوجب ذلك. لقد تعجّلت السيدة ماي أمر تثبيت اسمها كزعيمة لحزب المحافظين تستطيع ما كان بوسع المرأة الحديدية الإقدام عليه، فدعت لانتخابات عامة لم تكن هي، ولا الحزب، ولا البلد، بحاجة إليها. أتت النتيجة بكارثة تراجع أغلبية حزبها في مجلس العموم بنسبة أفقدت تيريزا ماي زمام الأمر، ما اضطرها للبحث عن حليف من الأحزاب الصغرى يساندها في تشكيل الحكومة. جورج أوزبورن، وزير المالية السابق، استغل الموقف فسارع إلى وصف لرئيسة الحكومة فيه غطرسة ليست تليق بسياسي عريق، إذ قال الأحد الماضي أمام الملأ، عبر شاشة «بي بي سي»، إنها «امرأة ميتة تمشي». عيب. الشماتة لا تجوز، بأي حال، وخصوصاً من منطلق الانتقام. ثم إن مستر أوزبورن، وقد هبطت عليه رئاسة تحرير «إيفننغ ستاندرد» - أهم صحيفة يومية مسائية في بريطانيا، من حيث لم يتوقع - كان يستطيع تحليل الوضع بعقل بارد على صفحات جريدته، بدل زعيق رأس ساخن بالغضب إزاء ما انتهى إليه استفتاء «بريكست»، الذي تحمّس له مع صديق مشواره السياسي، ديفيد كاميرون، والذي لم تكن هناك حاجة إليه هو أيضاً، وأغرق بريطانيا في دوامة غير معروف إلام يطول مداها.
ولأن الشيء يذكّر بشيء، فإن تغطرس بعض ساسة بريطانيا، وربما في مجتمعات الغرب عموماً، يظل هو الآخر أقل أذى مما تفعل الغطرسة السياسية في أرض الشرق غير السعيد. هناك، يضيع بلد بأكمله، ويغطس بمستنقع فوضى، أو ضيق حصار، بفعل طاووسية الذات. في تلك الديار، يصنع زعماء حركات وأحزاب وتنظيمات، تماثيل لأنفسهم داخل عقولهم، وسواء قصدوا أو لم يقصدوا، يصبحون لها أسرى، فيأمرون العباد أن يكونوا بها ملتزمين، ولتعاليمها مخلصين، حتى لو انتهت البلاد في مهاوي الردى. أي غطرسة أكثر وبالاً، هذه أم مجرد خسارة انتخابات يمكن تعويضها في الآتية، حتماً، بعدها؟


يبقى أنه ها قد أتى حين من الدهر ذاع فيه نبأ الغطرسة الأفظع، عندما يُشرِّع بشرٌ قتل البشر بلا وجه حق، ويَشرعُ من ضللهم فكر متنطع باستباحة دم المخلوق، بلا ورع من خالق الناس أجمعين، ويجد ذلك النفر المتغطرس بالإرهاب من يدافع عنه ويسوّق فظائعه عبر فضائياتٍ ومواقعَ إنترنت، أليس في ذلك من غطرسة إثم العدوان على الإنسان ما يفزع كل ذي ضمير؟ بلى.