وليد محمود عبدالناصر

الآن وقد انتهت الانتخابات البرلمانية البريطانية، والتي أجريت يوم الخميس في 8 حزيران (يونيو) الجاري، وتم إعلان نتائجها النهائية، وخرج الكثير من التقارير التي تحمل تحليلات مختلفة للعملية الانتخابية والأجواء التي سبقتها وتلك المحيطة بها وما دار خلالها من تفاعلات، وما أسفرت عنه من نتائج، يتعين علينا التوقف قليلاً لتناول بعض الاستنتاجات الخاصة بدلالات تلك الانتخابات، سواء على الصعيد البريطاني الداخلي أو على صعيد السياسات الخارجية البريطانية بأبعادها الأوروبية والغربية والدولية، من دون أن نزعم أننا نقدم عرضاً شاملاً لتلك الانعكاسات والدلالات.

أول الاستنتاجات أنه مرة أخرى، وقد لا تكون الأخيرة في النظام السياسي البريطاني، يثبت أن قرار رئيس أو رئيسة حكومة في السلطة إجراء انتخابات برلمانية مبكرة على أمل بتعزيز مكانة الحكومة ورفع حصتها من المقاعد البرلمانية، يأتي بنتائج عكس المنتظر والمتوقع من جانب الحكومة التي دفعت باتجاه هذا القرار. 

حدث هذا في آخر مرة سابقة في شكل أكبر مع رئيس الحكومة العمالي غوردون براون في انتخابات أيار (مايو) 2010 المبكرة، حيث خسر حزبه الانتخابات كلية، وربما كانت الوطأة أخف مع رئيسة الوزراء المحافظة الحالية تيريزا ماي، حيث إنها بقيت قادرة على تشكيل حكومة أقلية، بعجز ثمانية مقاعد عن تشكيل حكومة غالبية، في الأغلب بدعم من الحزب الوحدوي الديموقراطي في إرلندا الشمالية الذي حظي بعشرة مقاعد في الانتخابات الأخيرة، والذي يبدو أقرب المرشحين لتوفير الدعم لحكومة المحافظين من دون الاشتراك فيها. 

ولكن الخسارة التي لحقت بحزب ماي كانت جسيمة وعكس توقعاتها، والقيود التي سوف تكبل حكومتها القادمة ستكون معقدة، بما فيها المطالب التي سوف يفرض تلبيتها الحزب الوحدوي الديموقراطي داخلياً وأوروبياً، ولا شك في أن هذه القيود سوف تؤثر سلباً في قدرة الحكومة القادمة على إدارة الأمور من جهة وعلى صياغة تصورات بعيدة المدى لمستقبل بريطانيا من جهة أخرى، وقد تتسبب هذه القيود في المستقبل في إسقاط تلك الحكومة كليةً إذا ما تعرضت لاختبار تقدم المعارضة باقتراح لحجب الثقة عن الحكومة، وتخلي حليفها المحتمل الحزب الوحدوي الديموقراطي أو حتى بعض أعضاء هيئته البرلمانية عن دعم الحكومة، وذلك إذا اختلف الفرقاء في الطريق أو شعرت رئيسة الحكومة بأن الحزب الإرلندي الشمالي يضع عليها ضغوطاً فوق طاقتها أو يطالبها بتنفيذ استحقاقات تتناقض مع فلسفة حزب المحافظين وحكومتها، وبالإضافة إلى ذلك لا يجب التقليل من أهمية المخاوف والشكوك التي عبر عنها أخيراً رئيس الوزراء البريطاني المحافظ الأسبق جون ميجور في شأن الانعكاسات السلبية لاتفاق المحافظين مع الوحدويين الديموقراطيين على عملية السلام في إرلندا الشمالية واستنتاجه أن هذا الاتفاق سيمثل عبئاً على حكومة المحافطين القادمة وليس سنداً لها.

أما ثاني الاستنتاجات، وهو لا يزال على الصعيد الداخلي، فيتعلق بحقيقة أن نتائج الانتخابات البريطانية الأخيرة أكدت استمرار هيمنة نظام الحزبين على المشهد السياسي البريطاني، وعدم حدوث تراجع يذكر في حالة الاستقطاب بين حزب العمال وحزب المحافظين، على رغم ما لحق بالأخير من خسائر في هذه الانتخابات وما حققه الأول من مكاسب فيها، وباعتبار أن حزب العمال يمثل اليسار في شكل عام وحزب المحافظين يمثل اليمين في شكل عام أيضاً، وإن تنوعت درجات اليسار هنا واليمين هناك وفق توجهات رئيس الحزب الموجود وشخصيته ومدى قدرته على فرض سيطرته، هو وأنصاره، على الحزب ومؤسساته. 

نقول هذا مع الأخذ في الاعتبار أن الانتخابات الأخيرة شهدت أيضاً استمرار اتجاه متواصل منذ فترة يتمثل في تقلص مساحة الوسط في المشهد السياسي البريطاني، والذي يشغله عادة، ومنذ أربعة عقود تقريباً، الحزب الليبرالي الديموقراطي، وإن بمسمياته وتنويعات مختلفة، وهو ما ينعكس في عدد المقاعد التي يشغلها الحزب، بل وفي فقدان زعيم الحزب مقعده البرلماني في الانتخابات الأخيرة. 

وبعكس انتخابات أخرى دارت من قبل بدءاً من الولايات المتحدة ثم هولندا وفرنسا، فلم يحقق اليمين المتشدد في الحالة البريطانية طفرة في شعبيته أو عدد المقاعد التي بحوزته، وذلك على رغم عمليات إرهابية وقعت في بريطانيا على مدار الشهور الثلاثة السابقة على الانتخابات، تبناها تنظيم «داعش» وأثارت ذعراً وإدانةً واستياءً من مختلف الأطراف السياسية البريطانية، وتوقع معها البعض ارتفاع أسهم اليمين المتشدد. 

وعلى الجانب الآخر، فإن ما يراه البعض من وجود قيادة يسارية صرفة لحزب العمال متمثلة في جيريمي كوربن، وارتباط ذلك بمشكلات وحساسيات وصراعات داخل الحزب، خصوصاً بين قيادته وقطاع من أعضاء هيئته البرلمانية، لم يحل دون ارتفاع شعبية الحزب كما بينتها زيادة عدد المقاعد البرلمانية التي حصل عليها.

أما الاستنتاج الثالث المترتب على نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة في المملكة المتحدة فيتصل بالبعد الأوروبي لتلك النتائج، فمن شأن تلك النتائج أن تحد كثيراً من الهامش المتاح للحكومة البريطانية خلال المفاوضات التي سوف تنطلق خلال أيام لإتمام الاتفاق حول تفاصيل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تنفيذاً لاختيار غالبية البريطانيين في الاستفتاء الذي أجري في حزيران 2016، كما سيكون معلوماً للاتحاد الأوروبي والمفوضية الأوروبية أن الحكومة البريطانية التي يتفاوضون معها هي حكومة أقلية، ومن ثم أقل قوةً وتماسكاً مما كانت عليه الحال من قبل. 

فالحكومة الجديدة سوف تكون مشتتة بين التصدي لمطرقة حزب العمال وحلفائه من جهة، حيث أعلن كوربن بعد ظهور نتائج الانتخابات أنه إذا شكّل المحافظون حكومة أقلية فستكون فاقدة الشرعية للتفاوض على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، خصوصاً أن الحزب الليبرالي الديموقراطي يتجه منذ فترة مقترباً في مواقفه من حزب العمال ومن اليسار في شكل عام، وسندان الحزب الوحدوي الديموقراطي في إرلندا الشمالية، حليف الحكومة، والذي يرغب في فصم أي عرى مع الاتحاد الأوروبي، بل لديه تحفظات على مواقف حزب المحافظين الخاصة بالسعي لبقاء بريطانيا في السوق الأوروبية الموحدة والعمل على إيجاد آليات تشاور وتنسيق مع الاتحاد الأوروبي في ما يتعلق بالسياسات المتصلة بموضوعات مثل الأمن والهجرة.

أما الاستنتاج الرابع فيتصل بطبيعة التفاعل بين دور بريطانيا على الساحة الأوروبية من ناحية والعلاقة التاريخية التي تربط لندن بواشنطن من ناحية أخرى. فبريطانيا لعبت في السابق أدواراً محورية، وفي عهود مختلفة منها ما كان محافظاً مثل زمن رئيسة الوزراء الراحلة مارغريت ثاتشر ومنها ما كان عمالياً مثل زمن رئيس الوزراء الأسبق توني بلير، في محاولة التأثير في المواقف الأوروبية لمصلحة توجيهها بما يتوافق مع المواقف والمصالح الأميركية وبهدف جعل التحالف الأميركي- الأوروبي غير قابل للانفصام أو المراجعة، واكتسب هذا الدور تأثيره من اعتبارين لا يقل أي منهما أهمية عن الآخر: أولهما خصوصية العلاقة الأميركية - البريطانية وتميزها وما تتمتع به من حصانة لاعتبارات ثقافية وتاريخية، وثانيهما ثقل الدور البريطاني على الصعيد الأوروبي في شكل عام، وداخل الاتحاد الأوروبي على وجه الخصوص. 

إلا أن هذا الاعتبار الثاني تعرض للاهتزاز أولاً بعد قرار الناخب البريطاني الخروج من الاتحاد في حزيران 2016، وتعرض للاهتزاز في شكل أكبر مجدداً بعد نتيجة الانتخابات الأخيرة وتشكيل المحافظين حكومة أقلية، ويتعزز الشعور بهذا الاهتزاز لدى الإدارة الأميركية والحكومة المحافظة في لندن بفضل وجود قيادة يسارية واضحة لحزب العمال قاطعة في مواقفها إزاء السياسات الأميركية كونياً وأوروبياً ممثلة في جيريمي كوربن.

أما الاستنتاج الخامس والأخير فيتصل بتأثير نتائج الانتخابات البرلمانية في بريطانيا في الدور الدولي للندن، وهو دور يواجه الكثير من التساؤلات منذ سنوات طويلة، بحيث يرى العديد من الساسة والمثقفين والإعلاميين البريطانيين قبل غيرهم، أن هذا الدور تراجع في العديد من مناطق العالم وإزاء العديد من القضايا الدولية المهمة، وصار في العديد من الحالات إما تابعاً لمواقف أطراف دولية أخرى، أو أحياناً أخرى متأخراً زمنياً ومحدوداً في حجمه ومداه كمياً ونوعياً وأقل فاعلية وتأثيراً في أدائه عن مواقف أطراف دولية وأوروبية أخرى، أو أحياناً ثالثة غائباً عن الساحة في شكل تام أو شبه تام. 

ومن شأن نتائج الانتخابات الأخيرة تعزيز كل تلك المخاوف والشكوك، وذلك بفعل حقيقة أن حكومة الأقلية ستكون أقل قدرة على تبني المبادرات وطرحها إزاء ما يواجه العالم والغرب وأوروبا من تحديات، أو على السعي لإعادة اكتساب أرضية فقدتها المملكة المتحدة على مدار عقود في مناطق عديدة في العالم، نظراً لأن من شأن كل تحرك في هذا الاتجاه أو ذاك أن يستلزم دعماً برلمانياً قوياً وهو أمر يبدو صعب المنال في ضوء تباين، بل أحياناً تناقض المصالح بين الأحزاب الممثلة في البرلمان البريطاني، وفي ظل إدراك الأطراف السياسية المحلية الأخرى هشاشة وضعية حكومة الأقلية لحزب المحافظين.

هكذا عرضنا خمسة استنتاجات لبعض دلالات نتائج الانتخابات البرلمانية البريطانية الأخيرة، وهي جميعاً استنتاجات تتعامل مع المستقبل وترتكز على تقديرات لمعطياته، وإن كانت تحتمل الخطأ والصواب فإنها تنبني على أسس موضوعية وعلمية في التحليل وتتناول دوائر الداخل البريطاني، والجوار الأوروبي اتصالاً بمعطيات «بريكزيت»، وسياق التحالف الغربي عبر الأطلسي، وأخيراً المشهد العالمي ككل في لمحات سريعة وموجزة ولكنها متصلة.


* كاتب مصري