أحمد جابر

استصغر الطائفيون كلمة ومدلول «حزب»، فاتخذ أكثرهم لحركته السياسية اسم «التيار»، وإذا كانت كلمة الحزب مقيّدة بمرادفات التنظيم والانتظام والانضباط الواضح، فإن كلمة تيار ترتبط، في عرف «التياريين»، بمرادفات الانفتاح والاتساع المتنامي والمبادرة الحرّة والمرونة الانضباطية.

الخلاصة الإيحائية الفورية التي تميز بين الحزب والتيار، أن الإلزامية الفعلية وليس اللفظية سمة أساسية في كل حزب، وأن الطواعية والاختيار الحر هما العلامة الفارقة للتيار. 

قول مطلق يواجهه قول مطلق آخر، بينما يشير الواقع اللبناني إلى أن «الانتظامات» السياسية الراهنة باتت كلها قسرية داخل هياكلها، وإلغائية في يوميات صناعة قراراتها، فهي تلغي إرادة داخلها أولاً، عندما تتمركز قراراتها بين يدي أب قائد، وتلغي خارجها من الكيانات، عندما تجعل مقياسها مرجعية مقفلة على المراجعة، وعندما تحدد كيانها بصفة فئوية هي بالتعريف لاغية لغيرها من الفئات.

إذاً، من الأجدى تعريف التيارات التي تناسلت بمضامينها الحقيقية وليس بناءً على أحاديثها العلنية، ومن الأجدى أيضاً ضم الأجسام – الحركات إلى كل تعريف عام يدحض كل تعريف خاص يدّعي العمومية، فالحركات شبيهة التيارات، وهي وإن تمايزت عن هذه الأخيرة بمسمياتها، فهي شبيهة بها بأقوالها وأفعالها، والحركات والتيارات أيضاً، أحزاب من نمط آخر، وهي وإن لم تقل قولها الفكري أو السياسي، فإنها تجري مجراها في مجال التنميط وخضوع الأكـــثرية لأقلية الأقلية، وهذه تتضاءل حتى تصير نخبة قـــيادية، أو قائداً فرداً مطلق الصلاحيات.

يعلن تيار لبناني أنه وطني وأنه حر، ولا يعتني بشرح كيف يجمع بين «وطني»، الذي يعني الاشتمال على كل المدى الوطني الديموغرافي، وبين الصياح الخصوصي الذي يتنفس فئوية، ويفوح طائفية ومذهبية! وما معنى أن يكون التيار حرّاً، عندما تكون حريته مفصلة على قياس رؤيته هو، وغير متصلة بغيرها من الحريات؟ 

وإذ يقال إن حريتك تنتهي عندما تبدأ حرية الآخر، فإن القول هذا يؤول إلى الإبطال والشلل لتناقضه مع مفهوم الحرية ذاته، ويكون مصيره الجمود أو التقوقع واعتزال الآخر، لأنه يرفع بينه وبين حرية غيره سوراً، بديلاً من أن ينشئ جسراً، ولأن السور مقبول من «الحر» الآخر، المكتفي بذاته وبحريته، تصبح الممارسة التواصلية صراخاً من خلف الأسوار الفئوية المتعددة، ويشيع الحذر من الاقتراب والملامسة، فيصير سلوكاً عادياً. لا يلغي التمسك بمناداة الأغيار إلى «كلمة سواء»، واقع أن التياريين والحركيين ليسوا على سوية الكلمة السواء، وهم على الأرجح سواسية في صناعة السوء للعمومية الوطنية التي ينافقون بالحرص عليها، وهم أنداد و»بعضهم ولي بعض»، عندما يشق صوت وطني حر حقيقي، قميص الأثير.

وما أكثر المواضيع التي تزيح الستار عن كذب الأحرار والوطنيين من ساسة اليوم، وما أغنى اليوميات التي تدحض ضحالة سياساتهم وفقرها. كلام كثير يقض مضاجع الميثاقية اللبنانية، وسكاكين طائفية طويلة تغرز في معناها وفي مبناها. خطب ملأى بالدعوات إلى التنبه لما يحاك للوطن، وعبارات ليل الدسائس الطائفية المتبادلة تمحو كل خطب النهار!! ومن نداء «شعب لبنان العظيم... أيها اللبنانيون... أبناء الأرز... وأحفاد القائد... وورثة الإمام...»، لا يبقى إلا صدى «قائدي... زعيمي... رئيسي...» على حق!!. 

ومن سوء الملموس أن الوطن الذي على حق، ليس موجوداً حالياً كوطن ناجز مكتمل القوام التعريفي والماهوي والاجتماعي، ومن سوء الملموس المعروف، أن الجهل بمقتضيات وقواعد وضرورات هذا الوطن المفرد الناجز القائم بذاته، هو السمة الجامعة لأبناء البارحة من التشكيلة السياسية الحاكمة والمتحكمة، الذين لا يعرفون من الكيانية اللبنانية وتاريخها الإشكالي إلا اسمهما، ولا يفقهون من التشكيلة السكانية اللبنانية ومسالك استقرارها واجتماعها، إلا عددها، ولأسباب غير وطنية، ولدواعٍ لا علاقة لها بالحرية، يذكر الساسة عدد الكتلة السكانية ويرفضون تعدادها!

يأتي السياسي اللبناني، الجاهل بكيانيته وبأحكام التساكن الذي يجمع بين الاضطرار والاختيار، فيتلاعب بالحاضر، ويقفل على المستقبل، ولا يكون الماضي حاضراً لديه، إلا في صورة حنين لواقع متخيل... وما أوسع «المخيال» السياسي، لدى هذا السياسي أو ذاك، عندما يستعيد صور ماضٍ لم يكن فيه، وعندما يعيش الحدث المنقول، فيتخلى عن الحدث الملموس المعقول، وعندما ينتشي بما سمع وبما تراءى له، فيخال ذاته مقاتلاً في جيش «الفتح الأول»، أو تاجراً على مركب انطلق من شواطئ «فينيقيا»، أو ثائراً يطلق الآن مع ثوار ذلك «الجبل العنيد».

واقع الحال، أن التيارات السياسية باتت بيئة خيال سياسي مقيد بأحلام النوم وبأحلام اليقظة، وأن القولبة الانتظامية لمجموع الفئات اللبنانية، صنعت قيود التحاق خاصة بها، بحيث يتلازم الالتحاق الإرادي الأول، بتبعية إلغاء الإرادة بعد الالتحاق، ومما تجدر ملاحظته، بل من الأهمية بمكان، الانتباه إلى أن التبعية الفردية والجمعية، بقوالبها الجامدة وبصقيع أفكارها وسياساتها، تحولت تباعاً إلى شعور بالحرية غير المقيدة وبالانطلاق الحر من جانب مجموع التابعين، ساهم في هذا الشعور، إحساس الفئة أنها حرة بالكامل عند التئام شملها الخاص، مثلما ساهمت سهولة إزاحة هذا الإحساس الخاص إلى المدى العام، في الدمج بين خصوصية الشعور الفردي بالحرية وعموميته. 

هنا أيضاً، أي عند المزاوجة بين فئوية الشعور القوي بالحرية داخل البيئة المفردة، وبافتراض الشعور بها خارج الإطار الفئوي، يولد الوهم الذي يخال الفئوي تحت تأثير وهمه، أنه وطني وأنه حرّ، فقط لأنه نجح في إزاحة ما عنده من شعور إلى مدى شعور سواه، سواه الذي بات مجهولاً من جانبه أكثر فأكثر، لجهة ما يقيم عليه من واقع، ولجهة ما ابتكر وارتضى لذاته من أوهام.

مع اليقظة وأحلام اليقظة، لا حرية ولا وطنية في ما تقدم عليه التشكيلة السياسية اللبنانية من ممارسات، ومع ملموس الفئويات وواقع كل منها، لا وسائل اتصال سوى الأوهام، وإذا كان الخيال المبدع رفيقاً للعقل المبتكر، فإن الأوهام درب دائمة لكل الذين اعتادوا مسالك الانحدار.

عسى يكون للبنان ساسة وطنيون - وأحرار.


* كاتب لبناني.