محمد الرميحي 

 قال أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد، صاحب التجربة الطويلة في العلاقات الدولية والعارف بمواطن الأمور عربياً وخليجياً ودولياً: «أرجو ألا تتطور الأزمة لتصل إلى ما لا تحمد عقباه»، تلك عبارة هي صوت ضمير قطاع واسع من النخب في الخليج، بل ومن الرجال والنساء العاديين، أو ما اصطلح على تسميته «رجل الشارع» الذي يملك حساً تلقائياً بالشعور بالمخاطرة، ورغبة طبيعية في التكاتف والتواصل. ومهما بدا على السطح فيما بين البعض اليوم من شقاق، مع الأسف على ما أسميه منصات «وسائل التدمير الاجتماعي» بدلا من «الاتصال»! نتيجة فوران العواطف وقوة الصدمة، فإن العقلاء، وهم كثيرون، يرجون من صميم قلوبهم أن تصل الأمور إلى خواتيم سريعة وتوافقية جامعة وإيجابية.
في الأزمات قاعدة، هي أنها تظهر الحقائق جلية، كما أنها تكشف حقائق كانت متصورة وأصبحت ملموسة، ولم تكن ظاهرة للعيان، هذا يعجل من معالجتها أفضل من بقائها تحت السطح، والأزمة الخليجية ليست استثناء، ولكنها الأكبر والأشد وقعا. في الأزمة الكبرى في الخليج التي نشهد تطوراتها اليوم، يقف كثيرون من أبناء الخليج حيارى، يضعون أياديهم على قلوبهم، ويتمنون أن تُكشف الغمة على وجه السرعة، وبأكثر الوسائل سلمية وحضارية، من خلال حوار بناء بين الأطراف، يزيد من حصانة الإقليم وتجنيبه المزالق الخطرة؛ لأن الخسارة فادحة بل كارثية، إن سارت الأمور إلى «ما لا يحمد عقباه».
ولقد تبين في إطار تأجيج المشاعر، أن هناك متربصين لا تنقصهم الانتهازية، أو الجهل إن أحسنّا النية، يعملون لصب الزيت على النار، والظهور بمظهر الدفاع عن هذا الموقف أو ذاك، فرادى أو دولا، سعيا وراء تأكيد مضمر، أن أهل الخليج قاصرون عن حل خلافاتهم.
شخصياً أتمنى أن تسارع الوساطة الكويتية لوضع خطوات ملموسة للانفراج. لن يكون هناك رابح وخاسر، سيكون الرابح هو المجتمع الخليجي، الذي ظهر للجميع كم هو متداخل ومترابط ووشائجه أقوى من أن تكسر. كما سوف يكون الرابح هو الاستقرار والبعد عن البحر اللجي الذي غرقت فيه، أو كادت، شعوب ودول حولنا. لعل الخطوات العاجلة المرجو أن تتخذ هي عدم تدويل أو أقلمة الأزمة، وكلما كانت محصورة بين الأشقاء الذين لا فكاك من تعاونهم لمصلحة شعوبهم، كان ذلك أفضل.
أحزنني التصريح غير المتوازن للسيد رجب إردوغان، وهو مع الأسف معروف الآن بتصريحاته المتسرعة في كثير من الملفات، فتركيا تعاني داخلياً من انقسام ليس له سابقة، وقد شهدت عاصمتها العام الماضي في شهر يوليو (تموز) قيام بعض سلاح الجو التركي بقصف العاصمة، وكانت آخر مرة وجدت أنقرة فيها نفسها معرضة لهجوم عسكري في عام 1402، عندما هاجمها تيمورلنك! وهذا دليل من بين أدلة أخرى على الوضع القلق في بلاد السيد إردوغان، يحتاج إلى اهتمامه الأقصى وجهده، بدلا من توزيع النصائح أو حتى التهديدات، كما أن الأزمات التي تواجهها أنقرة ليست هينة أو يسيرة، فعدد من نخبها العسكرية في السجون، ومعهم عدد كبير من نخبها العلمية والتعليمية والإعلامية، كما تواجه أنقرة حرباً داخلية مع جزء من شعبها هم الأكراد، وتراجعاً اقتصادياً، فالسيد إردوغان يحكم بلداً منقسماً على نفسه، لا يحتاج إلى أن يتدخل بتصريحات مثل هذه في شأن داخلي خليجي، تحرص الأطراف أن تجد له مخرجاً توافقياً بعيداً عن التشنج.
الراقصون فرحا على وقع الأزمة كثيرون، جماعات وأفراد ودول، ليس كثير منهم حباً في هذا الطرف أو ذاك، بل رجاء في احتدام الموقف ودخول المنطقة، التي هي حتى الآن بعيدة عن نيران الاضطراب، إلى الغوص في الفوضى والشقاق. يريد هذا البعض أن يعمق فكرة عدم القدرة على إدارة الاستقرار والتحكم الناجح في المسؤولية العظمى الدولية المناطة بدول المنطقة، كمصدر دولي للطاقة ومنطقة حيوية بين شرق وغرب.
بعض الأطراف الدولية، حتى الآن نأت بنفسها عن التدخل السلبي النشط، بل إن كثيرا من التصريحات هي باتجاه الدعوة إلى التهدئة وتحكيم العقل والرجوع إلى مكان آمن، في حوار أخوي يحفظ للجميع قدرهم وقدراتهم، كما يحافظ على الأمن الجماعي. كان كثير منا يأمل في أن يتطور مجلس التعاون إلى مؤسسة فاعلة أفضل مما هي عليه اليوم، ولو أنه حقق كثيرا من المنجزات، ولكن هذه الأزمة تدعونا إلى الحديث لإعادة هيكلة هذه المؤسسة الإقليمية، كي تصبح أكثر مؤسسية وفاعلية. فالقول الرائج إن الأزمات تخلق الفرص، ولعله من الأوفق أن تكون فرصة تطوير مجلس التعاون في المرحلة القادمة، هي واحدة من أولويات العمل الجماعي في المستقبل، وبناء قناة فاعلة للحوار الجاد والموضوعي والصريح لمناقشة الهواجس أو المخاوف التي يشعر بها أو يتصورها أي طرف من أطراف مجلس التعاون، دون تهويل ولا تهوين.
لقد كشفت الأزمة ضعف قنوات الحوار أو عدم فعاليتها والحاجة إلى بناء آلية، هذه الآلية المفتقدة، كانت في ذهن المرحوم الشيخ جابر الأحمد أمير الكويت، الذي بذل، ومن خلال الأمير الحالي وكان وزيرا للخارجية الشيخ صباح الأحمد، جهدا مع الرجال الكبار (رحمهم الله) الملك فهد بن عبد العزيز، والشيخ زايد بن سلطان، وخليفة بن حمد، وعيسى بن سلمان، وأطال الله في عمر قابوس بن سعيد، الرجال الميامين الذين سعوا بكل تصميم إلى خلق هذه المؤسسة الإقليمية، ووقعوا على وثيقة مجلس التعاون في ذلك اليوم المشهود 25 من شهر مايو (أيار) عام 1981، في العاصمة أبوظبي. كانت تلك الآلية في ذهن جابر الأحمد (محكمة لحل المنازعات)، وقتها لم تكن الظروف قد نضجت لمثل هذه الأفكار، ولكن استقر الرأي في وثائق المجلس، على أن يكون هناك «هيئة فض المنازعات» التي يتوجب لتفعيلها رضا أطراف الاختلاف. ومع وجودها على الورق لم تُفعّل، إلا أن المستقبل قد يحتاج إلى إعادة التفكير في مثل هذا الاقتراح، والاقتراحات الأخرى المساعدة على تطوير العمل الجماعي وتجويد وسائل الاتصال البيني، وعدم ترك الأمور للتفاقم المَرَضي الذي يستنزف الطاقات ويهدر الموارد.
عندما قام مجلس التعاون، كتب السيد محمد أبو الخيل، وزير المالية السعودي وقتها، مقالا في مجلة «العربي» المعروفة، يشير فيه إلى أن التعاون الإقليمي يتطلب شيئا من التنازل عن الفهم المتصلب لما يعرف بـ«السيادة الوطنية»، كما تطورت في الدولة البرجوازية الغربية. وقد كتب أيضا السيد عبد الله بشارة، أول أمين عام لمجلس التعاون، التعبير الشهير، أنه لا بد من التفكير في نزع القدسية عن المفهوم التقليدي (السيادة الوطنية) والالتزام الصارم بما يوقع من تعهدات. وقد كان الاثنان محقين، فقد خرجت وقتها أصوات تُهول من السلبيات والتخوف من الاتجاه إلى إنشاء المجلس، بسبب أجندة ما، أو جهلا بالمصالح الكبرى التي يمكن أن تتحقق. المؤسسون (رحمهم الله) كانوا على وعي عميق بالمخاطر، وعلى فهم واضح بالالتزامات التي ما زال العالم يتوقع أن يحافظ الجميع عليها من أجل استقرار المنطقة؛ ليست لأنها في غاية الأهمية لقاطنيها فقط، بل والعالم، حيث إنها مصدر للطاقة، وممر للتجارة، ومثال للاستقرار. إنها مسؤولية ضخمة كشفت الأزمة مدى خطورتها.