حسن حنفي

لم يتصور العرب يوماً أنهم يصلون في يوم من الأيام إلى هذه الدرجة من التفتيت والتجزئة بحيث يبدو اندماج الستينيات، الجمهورية العربية المتحدة، 1958-1961 وكأنه حلم كبير من الماضي يصعب أن يعود. والمستقبل ما زال بعيد المنال. تحوط به الأخطار قياساً على الحاضر. فكل ما تم إجراؤه من اتحادات وهيئات ومؤسسات عربية لا وجود له. بل إن اللغة العربية نفسها، أفضل ما بقي من العروبة، همّشت نفسها لصالح اللهجات العامية.

وقد أصبحنا من أعلى الأمم نسبة في الأمية وفي النسل في آن واحد بعد الهند. وقد بدأنا في مخططات التنمية سوياً عام 1948. وعلى رغم تعلم الأقلية إلا أن الأغلبية كانت في أمية شاملة. وكانت القومية العربية قد بدأت بعدما وجدت زعامتها في «الناصرية». فانتشرت في الوطن العربي.

ثم جاءت الزعامة الثانية في أوائل السبعينيات، بعد هزيمة 1967 في زعامة لم تطل وتحولت من النقيض إلى النقيض، من الاشتراكية إلى الرأسمالية، ومن القطاع العام إلى القطاع الخاص، ومن التحالف مع الشرق إلى التحالف مع الغرب. ووقع كل أنواع التفكك الاجتماعي والفساد. ثم قام الشعب كله، طلابه وعماله، فلاحوه وملاكه، شبابه ذكوراً وإناثاً، في 25 يناير 2011 لإكمال ثورة 1919.

وبعد انتصار الثورة بدأت تعاني من بنيتها الداخلية. وبدأ التناحر بين القوى السياسية على السلطة في ثقافة لم تصبح بعد ثقافة مدنية، بل ظلت دينية مذهبية طائفية. واختلط الصراع على السلطة بالصراع على المذهب بالسلاح. فسال دم الجميع باسم الكل وما زال يسيل حتى أصبحت الوحدة الوطنية مستحيلة حتى قبل الوحدة القومية.

والفيدرالية حل ثالث بين الدولة الوطنية والدولة القومية. فهي ترضي حاجات الدولة الوطنية في الحكم المستقل. كما ترضي الدولة القومية في تلبية حاجات الاندماجية. فالحكم الفيدرالي يحافظ على التجربتين، الوطنية والقومية، الوطنية إرضاء للوطنيين، والقومية إرضاء للقوميين. الفيدرالية تحافظ على استقلال الأوطان وفي الوقت نفسه تحافظ على تعدد القوميات. تحرص على الوحدة والاختلاف. ترعى الوحدة في الدفاع المشترك، وحرية التنقل بين الحدود دون تأشيرات دخول أو خروج، وحرية اختلاف في اللغة والتعليم والصحة والقطاع العام. ويبدأ ذلك الحلم الوحدوي العربي على نحو تدريجي، بدأ في صورة جامعة الدول العربية. ومنذ أكثر من ستين عاماً. وإرثها ضئيل.

ثم تأتي الوحدة الناجحة مع دولة الإمارات العربية المتحدة، اتفاق حر بين سبع إمارات بمبادرة من أكبرها وقد صارت رمزاً للتنمية والاتحاد والتقدم. وتأتي بعد ذلك محاولات تكامل وتعاون الأقاليم الجغرافية كمجلس التعاون، اتحاد المغرب العربي. أما مصر فهي القلب الذي يربط بين الرئتين، غرب الوطن العربي وشرقه، الممر من الشرق إلى الغرب، ومن الغرب إلى الشرق. يحرك القلوب فتتحرك النفوس. أما فلسطين قضية العرب، فهي دولة فيدرالية يمكن أن تعيش فيها كل القوميات في تعايش وسلام كما عاش اليهود والمسيحيون والمسلمون في الأندلس. وعاشوا عصرهم الذهبي في اللغة والثقافة والعلم والفلسفة والعلم. وقد أبدع يهود مصر والمغرب وتونس واليمن والعراق عبر التاريخ عرباً مع غيرهم. ولم يروا عنصرية إلا في الغرب، وهولوكوست إلا في أوروبا. وظهرت العنصرية ممثلة في الصهيونية كرد فعل على العنصرية الغربية. فهذا هو «مشروع السلام الدائم» كما حاول الفيلسوف كانط طرحه بين الدولة الغربية في القرن الثامن عشر.. أن تصبح كل دولة عربية دولة فيدرالية، وأن تصبح الأمة العربية أمة فيدرالية إحياء لميثاق المدينة الأول. واستباقاً للاتحاد الأوروبي واسترجاعاً للميثاق الوطني الفلسطيني الديمقراطي الأول، دولة فلسطينية واحدة، يتعايش فيها الجميع.