عصام نعمان

عرّف الكاتب والناقد السياسي الراحل منح الصلح لبنان بأنه بلد الطوائف والوظائف والمصايف. لو بقي حيّاً إلى أيامنا لكان أضاف إلى تعريفه المصارف.

غير أن لبنان، إلى ذلك، هو البلد الوحيد في العالم، ربما، الذي لا شيء فيه دائماً إلا المؤقت. كل ما في لبنان مؤقت أو انتقالي ولا يبقى دائماً إلاّ وجه ربك ذو الجلال والإكرام.
قانون الانتخاب جرى وضعه في عهد الانتداب الفرنسي منذ نحو قرن، وما زال نافذاً، مع تعديلات طفيفة، حتى الوقت الحاضر، وهو يعتمد نظام الانتخاب الأكثري الذي أدّى إلى إعادة إنتاج النظام الطوائفي الكونفدرالي وتكريس تناوب عائلات وزعامات معدودة على السلطة في شبه «أبدية» سياسية فاقعة.

محاولات إصلاحية متعددة جرت، منذ مطالع سبعينات القرن الماضي، لإصلاح النظام السياسي باعتماد نظام التمثيل النسبي في قانون الانتخاب لتجديد القيادات والسياسات، لكن دونما جدوى. 
إزاء اشتداد الدعوة وبالتالي المطالبة باعتماد النسبية في قانون الانتخاب، توافقت الأطراف المشاركة في حكومة نجيب ميقاتي الائتلافية على اعتماد صيغةٍ لقانون الانتخاب مستقاة من تقريرٍ للجنة إصلاحية عُرفت باسم لجنة فؤاد بطرس، كانت اعتمدت في توصياتها نظام التمثيل النسبي على أساس 13 دائرة انتخابية.
إزاء إفلاس أهل النظام وتردّي أحوال البلاد والعباد، اشتدت حملات المطالبة بالإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فكان أن اجتمع في إسطنبول صيفَ العام 2016 جبران باسيل، ممثلاً رئيس «التيار الوطني الحر» العماد ميشال عون، ونادر الحريري ممثلاً رئيس «تيار المستقبل» سعد الحريري واتفقا على تسويةٍ للخروج من الأزمة قوامها انتخاب عون رئيساً للجمهورية وتسمية الحريري رئيساً للحكومة، كما اتفقا على جملة أمور أخرى بينها صيغة جديدة لقانون الانتخاب.

تمّ بالفعل انتخاب العماد عون رئيساً في خريف العام الماضي، لكن تعذّر تسويق الصيغة التي اتفقا عليها لقانون الانتخاب العتيد ما استوجب عقد اجتماعات متعددة واندلاع صراعات محمومة قبل أن يتوصل الأطراف المتصارعون إلى صيغة توافقية جرى اعتمادها أخيراً في مجلس الوزراء وإحالتها إلى مجلس النواب لإقرارها.
أيّاً ما كان أو سيكون مصير هذه الصيغة الهجينة، فإن ثمة ملاحظات خمس أساسية يقتضي بيانها:
*أولاها، أنها تنطوي على نواقص قيل إنه سيصار إلى سدّها (؟) وعلى وعود سيصار إلى تنفيذها في المستقبل ما يعزّز المقولة الشائعة إن ما من شيء دائم في لبنان إلاّ المؤقت أو الانتقالي حتى لو طال أمد الانتقال.

*ثانيتها، أن الطائفية المشكو منها جرى تكريسها بل تعميقها بتقسيم البلاد إلى 15 دائرة انتخابية، وذلك بضم أقضية (مناطق) ذات لون طائفي أو مذهبي صافٍ أو غالب لتكوين دوائر تؤمّن مصالح هذا الحزب (ذي اللون المذهبي الغالب) أو ذاك أو هذا الزعيم (ذي القاعدة المذهبية الغالبة) أو ذاك. ولعل في تقسيم بيروت إلى دائرتين، واحدة شرقية مسيحية وأخرى غربية مسلمة احتمالاً ماثلاً لإمكانية إعادة تفجير الحرب الأهلية.

*ثالثتها، أنها حرمت من التمثيل ما يمكن اعتبارها أكبر طائفة في لبنان وهي «طائفة» (أو بالأحرى جماعة) اللاطائفيين وذلك بالامتناع، قصداً وعمداً، عن تنفيذ المادة 22 من الدستور التي تنصّ على انتخاب مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي .

*رابعتها، أنها حصرت الصوت التفضيلي الممكن إعطاؤه لواحد من المرشحين في القائمة (أو اللائحة) الواحدة في القضاء وليس في الدائرة المكوّنة من عدة أقضية، الأمر الذي يعود بالانتخابات إلى مساوئ النظام الأكثري الإقصائي، سيما وأن 8 دوائر من أصل 15 مؤلفة من قضاء واحد أو نصف قضاء كدائرتي بيروت الأولى والثانية.

*خامستها، عدم المساواة في تقسيم الدوائر، ذلك أن بعضها ينطوي على 10 مقاعد أو 8 مقاعد، وبعضها الآخر على 5 أو 6 مقاعد، ما يعني أن بعض الناخبين يستطيع انتخاب عشرة نواب في حين أن بعضهم الآخر لا يستطيع أن ينتخب إلاّ خمسة، ما يخالف المادة 7 من الدستور التي تنص على مساواة اللبنانيين لدى القانون.
باختصار، ما زال أهل النظام السياسي المترهل يمسكون بزمام السلطة وبالقدرة على إعادة إنتاجه ومنع تجديد القيادات والسياسات. ولعل الدليل الدامغ على ذلك قيامهم، من خلال صيغة قانون الانتخاب الجديد، بإبدال نظام التمثيل الأكثري المبرقع بالطائفية والمحاصصة بآخر من الطراز نفسه مقنّع بمستحضرات نسبية باهتة وعاجزة عن إخفاء القباحة النافرة.