أمير طاهري

لو تحدثت إلى أي من العاملين أو المقربين من إدارة ترمب بواشنطن ستسمع شيئين عن إيران: الأول هو أن الجمهورية الإسلامية ما زالت أعلى قائمة «المخاوف» الأميركية في السياسة الخارجية، والثاني هو أنه لم يجرِ تحديد سياسة محددة شاملة بشأن التعامل مع إيران، فهي لا تزال في مرحلة الإعداد، لأن السياسة الجديدة لم تجرِ صياغتها بالكامل، وهذا ما اتضح من تمديد الرئيس ترمب لمفاوضات الاتفاق النووي المثيرة للجدل التي بدأها سلفه باراك أوباما لثلاثة شهور قادمة.
السؤال الذي قد يطرح نفسه يتعلق بالهدف الذي تتصور الإدارة الأميركية الجديدة تحقيقه عن طريق صياغة سياسة جديدة للتعامل مع إيران. ففي ظل حكم الرئيس أوباما، كانت السياسة الأميركية تهدف إلى إقناع إيران بتغيير سلوكها من خلال عمل خليط من العقوبات والامتيازات المقدمة في صورة دعم استراتيجي لجماعة رفسنجاني حيث ينظر إليهم كـ«معتدلين». وبما أن ترمب مصمم على عدم الالتزام بمواصلة ما بدأه أوباما قدر الإمكان، وهو ما ظهر جليا في شجب الرئيس الجديد للاتفاق الذي أبرمه ترمب مع كوبا، فمن غير المرجح أن تكتفي السياسة الأميركية الجديدة تجاه إيران بتغيير السلوك فقط.
واتضح أن السياسة المفترضة لن تتبنى هذا الهدف. كان ذلك الأسبوع الماضي عندما ذكر وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون أمام الكونغرس أن الإدارة الجديدة تسعى إلى تغيير النظام في إيران، حيث قال: «سياستنا إزاء إيران في طور الإعداد ولم تسلم إلى الرئيس بعد، لكنني أود القول إننا ندرك جيدا استمرار إيران في نهجها الهادف إلى زعزعة الأمن في المنطقة عن طريق الأموال التي تدفعها للمقاتلين الأجانب والميليشيات التي ترسلها إلى سوريا والعراق واليمن، وكذلك دعمها لـ(حزب الله). ونتخذ الإجراءات الهادفة إلى الحد من هيمنة إيران. فقد جرى فرض عقوبات إضافية ضد بعض الأشخاص والجهات». أضاف وزير الخارجية الأميركي قائلا: «وضعنا أعيننا على فيلق القدس، فسياستنا تجاه إيران تهدف إلى الحد من تلك الهيمنة الإيرانية ودفعها للخلف، والحد من قدرتها على تطوير الأسلحة النووية، والعمل على دعم العناصر داخل إيران بهدف تحقيق انتقال سلمي للحكومة».
تعتبر هذه هي المرة الأولى منذ بداية التوتر بين الولايات المتحدة ونظام الخميني في طهران أن يعترف مسؤول أميركي رفيع بأن الهدف السياسي هو تغيير النظام. ربما تكون الإدارات السابقة، بدءا من جيمي كارتر وصولا إلى جورج بوش، قد رغبت في تغيير النظام، إلا أنها لم تتبنَ ذلك كهدف سياسي. فإدارة الرئيس ريغان حاولت اتباع سياسة العصا والجزرة مع إيران، وبمساعدة إسرائيل، تمكنت من تهريب الأسلحة التي تحتاجها الجمهورية الإسلامية في حربها مع العراق في عهد صدام حسين. لكن في الوقت نفسه، حاولت شق القيادة الخمينية عن طريق فتح قنوات سرية مع تيار رفسنجاني والتيار الذي كان يقوده رئيس الوزراء في ذلك الحين مير حسين موسوي، وفي الوقت نفسه تمويل عدد من الجماعات المعارضة في المنفى. اتبع الرئيس بيل كلينتون سياسة تغيير النظام ورفع بعض العقوبات المفروضة على إيران، وواصل كلينتون نفس النهج، خاصة أن طهران قدمت العون لإسقاط نظام طالبان في كابل وصدام حسين في بغداد.
داخل الإدارة الأميركية، كان هناك من يؤيد تغيير النظام الإيراني، ومنهم نائب وزير الدفاع باول ولفيتز، وكان هذا الاتجاه أقل حجما من مؤيدي فكرة تطبيع العلاقات مع إيران بقيادة مستشار الأمن القومي ووزيرة الخارجية كونداليزا رايس. وبالنسبة لأوباما، فقد تراجع إلى الخلف بمحاولته إقناع طهران تعديل سلوكها مقابل مساعدة الولايات المتحدة لها لتصبح أكبر قوة في الشرق الأوسط. وحدث في أكثر من مناسبة أن أعلن أوباما علانية شجبه لسياسة تغيير النظام، مؤكدا أن هذا ليس ما تريد الولايات المتحدة رؤيته.
وعليه، فإن الإعلان عن تغيير النظام كهدف يعتبر في حد ذاته تغيرا جوهريا في الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط.
السؤال الذي يثيره محللو الأسئلة هو هل الجمهورية الإسلامية ناضجة بما يكفي لتقبل تغيير النظام؟ فلسياسة تغيير النظام تاريخ طويل في استراتيجية الولايات المتحدة العالمية، حيث تعود إلى بداية الحرب الباردة في منتصف الأربعينات من القرن الماضي.
مبدئيا، كانت تدعمها مجموعة صغيرة من المهتمين بالجغرافيا الاستراتيجية وكانت موجهة إلى الاتحاد السوفياتي، فخلال فترة عهد ترومان، لم ينجح هذا النهج لأن «الاحتواء» كان الاتجاه السائد حينها، حسب تعبير جور كينن.
الفكرة كانت أنه في حال جرى «احتواء» الاتحاد السوفياتي فإنه سيخضع للقانون الثاني للديناميكية الحرارية. نظام مغلق ينتهي بانفجار داخلي.
وفي عهد أيزنهاور، قدم وزير الخارجية جون فوستر دولز فلسفة «احتواء المعتدي» التي كانت تهدف إلى محاصرة الاتحاد السوفياتي بسلسلة من حلفاء الولايات المتحدة. وضعت تلك السياسة في المحرقة الخلفية قبل أن يجرى اختبارها بالكامل في الوقت المناسب.
جون كيندي خليفة أيزنهاور تبنى سياسة ماك جورج بُندي التي أطلق عليها «رد الفعل المرن» وكانت تعني التعامل مع الاتحاد السوفياتي خطوة بخطوة بصورة براغماتية.
وفي ظل حكم الرئيس نيكسون، كانت الفلسفة الجديدة هي «الانفراج» وتعني وضع الاتحاد السوفياتي في ميزان قوى عالمي جديد من شأنه تحجيم الصراعات ودعم الاستقرار.
وقطعت واشنطن شوطا لإظهار قدر من الليونة في تعاملها مع الاتحاد السوفياتي لتأخير الانهيار الاقتصادي.
تجاهلت إدارة ريغان هذه الفلسفة وعمدت إلى «التقهقر» كهدف أساسي في تعاملها مع الإمبراطورية السوفياتية، مما يعني دفع الاتحاد السوفياتي خارج نطاق نفوذها بوصة بوصة إن لزم الأمر إلى أن تستسلم من تلقاء نفسها في النهاية.
بالإضافة إلى هذا، فعلى مدار أكثر من ستة عقود، ورغم عدم تبني ذلك كسياسة رسمية، استمرت فلسفة «تغيير النظام» باعتبارها عنصرا من عناصر السياسة الخارجية الأميركية.
جزئيا، وبفضل المال المقدم من «البنتاغون» وجهاز الاستخبارات الأميركية «سي آي إيه» أصبح تغيير النظام موضوعا أكاديميا في الكثير من الجامعات الكبرى، وبات مصدر إلهام للمئات من الأبحاث ورسائل الدرجات الجامعية العليا.
وعلى مدار العقود الماضية، تطورت الكثير من الأساليب الإبداعية الخاصة بتغيير الأنظمة وجرى اختبارها، ونجحت في بعض الأحيان وفشلت في البعض الآخر، وذلك في الكثير من الدول بدءا من الفلبين إلى نيكاراغوا مرورا بجورجيا وأوكرانيا وصربيا.
طبقت التجربة النهائية لتلك الفلسفة في روسيا في مرحلة ما بعد الحكم الشيوعي، وعام 2009، في جمهورية إيران الإسلامية. فأساليب تغيير النظام غالباً ما نقلها نشطاء تدربوا على يد معلمين ومختصين من الولايات المتحدة، وهو ما شاهدناه في «الربيع العربي» الذي رأيناه أخيراً لكن بدرجات نجاح متفاوتة.
فبحسب عقيدة تغيير النظام، يجب أن تتوافر 5 عوامل على الأقل ليتحقق تغيير النظام كخيار واقعي. والسؤال هو كيف يصبح النظام «قابلاً للسقوط»؟
الشرط الأول هو أن يكون النظام قد فقد كل أو أغلب شرعيته. وفي حالة الجمهورية الإسلامية، يتفق أغلب المحللين على أن جانباً كبيراً من الشرعية قد فُقد، فقد كانت ثورة عام 1979 تمثل العمود الفقري للشرعية التي استمدت دعمها من جانب كبير من القوى السياسية. غير أنه منذ هذا الوقت، عزز كثير من تلك القوى صلته بالنظام أو انضم إلى معارضيها النشطاء. والآن، فإن ما يعرف بـ«مصدقيتس»، فئة القوميين الدينيين، وفئة التيارات اليسارية والليبراليين الغربيين، باتوا من المعارضين للنظام. وبالاعتماد على استخدام القوة بدرجة كبيرة، فقد النظام الشرعية التي استندت في الأساس إلى الدعم الشعبي.
العامل الثاني لتغيير النظام هو أن جزءاً كبيراً من النظام يجب أن ينشق عن جسده الرئيسي، وهو ما حدث أيضًا في إيران. فحتى هؤلاء الذين لعبوا أدواراً كبيرة في مراحل مختلفة من الثورة باتوا يتساءلون الآن عن جدواها. ويصف إبراهيم اليزدي وزير الخارجية في عهد الخميني، ثورة 1979 بـ«انتصار للجهل على الاستبداد».
ومحسن سزجغارا، أحد مؤسسي الحرس الثوري الإيراني، بات الآن يقول إنه لو علم ما ستؤول إليه الأحوال اليوم ما كان انضم إلى الثورة. ومير حسين موسوي، الذي كان قائداً لإحدى أكثر الطوائف تطرفاً في النظام، بات الآن قيد الإقامة الجبرية في منزله، وآية الله نوري، وزير الداخلية في عهد الخميني، وصف ثورة 1979 بـ«رهان للنيات الحسنة التي أدت إلى التراجيديا».
العامل الثالث لتغيير النظام هو أن تتخلى غالبية القوة الغاشمة عن استعدادها لقتل المعارضين خلال المواجهات السلمية، وهذا أيضًا ما حدث في إيران اليوم. فقد بات واضحاً أن القوات المسلحة النظامية ترى أن مهمتها تقتصر على الدفاع عن البلاد في مواجهة عدو خارجي. ويقول قائد الجيش الجنرال عطا الله صالحي إنهم غير مستعدين للقتال في سوريا لإنقاذ رئيس النظام بشار الأسد. فقد شكلت الجمهورية الإسلامية 6 وحدات أمنية منفصلة، انضووا غالباً عن طريق الخطأ تحت لواء الحرس الثوري الإيراني، ولم يكن يوماً حجراً صلباً واحداً، فقد رفضت بعض عناصره الدخول في مواجهات مع المحتجين السلميين، وتركوا المهمة لكتائب الباسيج، وأنصار المهدي وكتائب كربلاء. وبالإضافة إلى أن الحرس الثوري لم يعد من الممكن الوثوق به بصورة تامة، لم يعد من الممكن الوثوق فيها في حال قيام حركة احتجاج شعبية كبيرة.
الشرط الرابع لتغيير النظام هو ظهور بديل للسلطة الأخلاقية يحل مكان الحكومة، وهو ما حدث أيضًا ولو جزئياً في إيران، حيث بدأ مزيد من الناس الاستماع لأصوات أخرى، وذلك بفضل مواقع التواصل الاجتماعي والبحث عن معلومات وإرشادات من أشخاص وجماعات غير مرتبطة بالنظام. لكن البديل الكامل للسلطة الأخلاقية لم يظهر بعد، ولذلك لا تزال هيمنة النظام على الإعلام واضحة، مما يعطيها ميزة إضافية. فالإذاعة والتلفزيون باللغة الفارسية في الخارج التي تمولها وتسيطر عليها الولايات المتحدة وحلفاؤها تتمتع بجمهور عريض داخل إيران، لكنها لم تساعد في ظهور بديل للسلطة الأخلاقية لأنهم يدعمون أحد الفصائل داخل النظام.
الشرط الخامس لتغيير النظام قد يكون الأهم والأكثر إشكالية في إيران اليوم، ففي ظل هذا الشرط، يجب على المجتمع التفكير في وجود حكومة بديلة قبل الشروع في تغيير النظام. ومن الطبيعي أن تخشى المجتمعات حدوث الفراغ ولن تدعم التغيير الجذري إلا بعد التأكد من وجود البديل، ففي عام 1978 - 1979 أوجد رجال الدين في إيران الحكومة البديلة قبل التغيير، ووثق الناس في تلك الحكومة لأنها كانت جزءاً من الواقع الإيراني على مدار 4 قرون، أي منذ تحول إيران للمذهب الشيعي. والآن، فإن أغلب رجال الدين يعارضون النظام الخميني، لكنهم لن يستطيعوا لعب دور البديل، لأن ذلك من شأنه أن يكسبهم صبغة سياسية بالصورة نفسها التي شجبوا بها الخمينيين.
ولأن جميع القوى السياسية سحقت أو أجبرت على حياة المنفى، فالشرط الخامس لن يتحقق عن طريق أي اتجاه سياسي تقليدي. فالمؤسسات التقليدية لعبت دوراً عامي 1978 و1979، لكن هذه المرة جرى تهميشهم بسبب تسونامي الرأسمالية الغربية الذي دفع بهم إلى الظل. فمن ضمن 200 عائلة في إيران في نهاية حقبة السبعينات، لم يتبقَ منهم عائلة واحدة، وظهرت بدلاً منهم أسماء غير معروفة ولم يتوقعها أحد.
فهل يكون الجيش العمود الفقري لحكومة بديلة؟ ربما.
ويتوق الجيش الإيراني شأنه شأن أي جيش في دول العالم الثالث إلى الحصول على أحدث نظم التسليح التكنولوجية العالمية، وأن تكون له كلمة أكبر في الحكومة. لكن التواصل مع عناصر في الجيش لا يزال محدوداً وغير مباشر. وحاولت الولايات المتحدة أن تستثمر بقوة لخلق شبكات تواصل مع رجال الدين والأكاديميين ورجال الأعمال في إيران، لكنها فيما يخص الجيش لم تستطع أن تفعل سوى القليل.
الأسوأ من هذا أن إدارة ترمب تهدد بإدراج الحرس الثوري الإيراني ضمن المنظمات الإرهابية، مما يجعل الحوار معها في المستقبل أكثر صعوبة.
قد تكون إيران مهيأة لتغيير النظام اليوم وفق العوامل المذكورة، لكن ليست جميع الشروط متوافرة في إيران اليوم. وإن توافرت الشروط، كما حدث عام 2009، فقد يخرج النظام بكامله خارج السرب بانسحاب مفاجئ لقادة النظام الخميني. إن كان الانسحاب هو ثمن البقاء على قيد الحياة، فسوف ينسحبون كما فعلوا في كثير من المناسبات في الماضي وربما في اللحظات الأخيرة.