حسين عبدالحسين

على مدى الأيام الماضية، سيطر على فضاء الإعلام الأميركي عنوان وحيد: «الرئيس ترامب قيد التحقيق». المتابعون قالوا إنهم توقعوا أن تصل الأمور إلى هذا الحد، فشهادة مدير «مكتب التحقيقات الفيديرالي» (اف بي آي) جيمس كومي، أمام مجلس الشيوخ قبل أسبوعين، لم تكن شهادة عادية، بل كانت بمثابة إضبارة اتهام كتبها كومي، وهو أحد أبرز الحقوقيين الأميركيين.

سلسل كومي الأمور بشكل واضح. قال إن الرئيس دونالد ترامب سأله إن كان يرغب بالحفاظ على وظيفته على الرغم أن المتبقى من ولاية كومي كان سبع سنوات. ولما أجاب كومي بالايجاب، قال ترامب انه يتوقع «الولاء في المقابل».

بعد ذلك، طلب ترامب من كومي البقاء في المكتب البيضاوي، وطلب الرئيس من الحاضرين الآخرين، ومنهم وزير العدل جيف سيشنز الذي يفترض أن يكون صلة الوصل إدارياً بين ترامب وكومي، الخروج. وعندما انفرد ترامب بكومي، قال له ان مستشار الأمن القومي المستقيل مايكل فلين «رجل جيد»، و«آمل ان تتخلى عن التحقيق» في إمكانية تورطه مع موسكو.

منذ شهادة كومي، حاول فريق ترامب، وفي طليعتهم ابنه دونالد جونيور، أن يستند إلى أقوال كومي ليشير لأن الرئيس قال إنه «يأمل»، وانها كلمة تفيد التمني ولا تفيد الأمر. لكن المشككين ردوا بالقول إنه لو كان ترامب يتمنى فحسب، ولو كان يعرف أن قوله ليس محاولة أمر كومي، لما كان طلب الخلوة مع الأخير.

وفي شهادته، ذكر كومي أن ترامب حاول لاحقاً مراجعته حول طلبه إغلاق التحقيق الروسي، ولما لم يستجب كومي، طرده ترامب.

وعلى الرغم أن الفريق الرئاسي حاول بادئ ذي بدء تعليل الطرد بالقول إنه لا يتعلق بتحقيق روسيا، إلا أن ترامب نفسه نسف التعليلات بالقول، في مقابلة تلفزيونية، إن سبب طرده كومي كان موضوع روسيا. وفي وقت لاحق، تبين أن ترامب تباهى بذلك أيضاً أثناء حديثه مع ضيفيه في البيت الأبيض: وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف وسفيرها في واشنطن سيرغي كيسلياك.

تسلسل الأمور، حسبما ساقها كومي، والشواهد، كلها تدل على أن ترامب حاول عرقلة مجرى العدالة في موضوع تحقيقات روسيا، وطلب من كل رؤساء وكالات الاستخبارات العمل على انهاء تحقيقات «اف بي آي» في الموضوع. ولأن سلف كومي وصديقه روبرت مولر يحوز ثقة الحزبين، ولأن وكيل وزارة العدل رود روزنستاين عين مولر محققاً خاصاً في الموضوع الروسي، باشر مولر عمله بطلبه إجراء مقابلات مع رؤساء وكالات الاستخبارات للتحقيق في إمكانية قيام ترامب بعرقلة مجرى العدالة.

ويبدو مؤكداً أن عرقلة مجرى العدالة ليست المخالفة القانونية الوحيدة التي يتحرى عنها مولر، الذي عيّن فريقاً قانونياً أطلق عليه المراقبون اسم «الفريق الحلم»، نظراً لخبرة أفراده في ملاحقة الجرائم المالية والجريمة المنظمة. ويعتقد المراقبون أن مولر يسعى إلى تعقّب «مسار المال» ليرى إن كان ترامب أو أفراد فريقه من المتورطين في عمليات تبييض أموال مع المافيا الروسية، وهو ما قد يفسر سرية ترامب حول بياناته الضريبية، واستمرار مهادنته الروس، حتى وسط المزاج الشعبي المعادي لروسيا بسبب تدخلها في الانتخابات الرئاسية التي جرت في نوفمبر الماضي.

وفي وقت بدأت فضيحة تورط ترامب مع الروس تأخذ منحى يكاد يتطابق مع فضيحة «ووترغيت» (التي اطاحت بالرئيس الجمهوري الراحل ريتشارد نيكسون وأجبرته على الاستقالة في العام 1974 تحت طائلة خلعه في مجلس الشيوخ بسبب «عرقلته مجرى العدالة» في تحقيقات «ووترغيت» نفسها)، لاحت بوادر تخلي الحزب الجمهوري عن الرئيس، وهو أيضاً من المؤشرات التي سبقت الاطاحة بنيكسون.

أولى هذه المؤشرات تجلت في تصويت مجلس الشيوخ، بما يشبه الاجماع، على منع ترامب من رفع أي من العقوبات الأميركية المفروضة حالياً على روسيا، بعدما سرت أنباء من البيت الابيض تفيد أن ترامب كان يسعى لذلك. وصادق المجلس بغالبية 97 صوتا من 99 على القانون، وهي مصادقة لا تترك مجالاً للرئيس لممارسة حقه في النقض (الفيتو).

افتراق مجلس الشيوخ عن ترامب، خصوصاً في موضوع يتعلق بروسيا، يرسل إشارات لا تحتمل التأويل، مفادها أنه إذا أثبت مولر تورط ترامب مع موسكو، فإن المجلس لن يتوانى عن التصويت على خلعه من الرئاسة. ولأن الدستور الأميركي لا يجيز محاكمة الرؤساء، فإن مجلس الشيوخ نفسه يتحول إلى محكمة، ويكون حكمه بغالبية أصواته.

وفي حال تم خلع ترامب، يحل مكانه نائبه مايك بنس، لكن الأخير يبدو أيضاً في دائرة المتواطئين مع ترامب في الموضوع الروسي، وإن لم يكن متورطاً مثل الرئيس ومستشارين آخرين.

ولأن بنس استشعر بالخطر مبكراً، فهو لجأ إلى تعيين فريق من المحامين في اليوم الذي تلى طرد ترامب لكومي، وكأن بنس كان يعلم عاقبة الطرد وراح يستعد لها.

وحده ترامب يبدو غافلاً، فطرده كومي أثبت أنه يحاول التستر على أمر ما حول علاقاته بموسكو، وفتح الباب لتهمة «عرقلة العدالة» ضده، ولما راح ترامب يسعى لتوظيف محامين، لم توافق أي شركة على الدفاع عنه لاعتقادها أنه يصعب الدفاع عن شخص لا يمكن السيطرة عليه وعلى تغريداته، التي تحولت إلى مادة إثبات قانونية ضده.

وفي حال أطاحت التحقيقات ترامب و بنس، يصبح رئيس الكونغرس بول راين رئيساً، حسب الترتيب الدستوري، يليه وزيرا الخارجية والدفاع ريكس تيلرسون وجيمس ماتيس. ويبدو أن تيلرسون وماتيس أصبحا يديران دفة واشنطن من دون ترامب، حسب ايان بريمر، رئيس مجموعة «يورايغا غروب»، والمعروف بصلاته الوثيقة في واشنطن والعواصم الحليفة. وينقل بريمر عن مسؤولين أوروبيين قولهم إنهم سمعوا من تيلرسون وماتيس انهما يتجاهلان آراء وقرارات ترامب، ويديران السياسة الخارجية والعسكرية الأميركية من دونه.

وليس بعيداً، أكد البيت الأبيض أنه أحال قرار تحديد عديد القوات الأميركية في أفغانستان والعراق وسورية إلى ماتيس، فيما تسري أنباء عن أن ترامب لا يتدخل في الشؤون الاقتصادية، التي يديرها مستشاره للشؤون الاستراتيجية ستيفن بانون. والحال هذه، يبدو أن جلّ ما يديره ترامب في رئاسته هو حسابه عبر «تويتر» وتغريداته، وهو يعتقد أنها كانت مصدر وصوله إلى البيت الابيض، ويبدو أنها ستصبح مصدر خروجه منه.