مصطفى السعيد

تزداد أوضاع المنطقة العربية تأزما وخطورة، فالهزائم المتوالية والسريعة للجماعات الإرهابية فى سوريا والعراق وليبيا لم تفسح المجال لحلول سلمية تلتقط فيها شعوب وجيوش المنطقة الأنفاس، بل تتهيأ لجولة جديدة من الحروب المباشرة بدلا من حروب «الوكالة». 

فشلت الولايات المتحدة فى إقامة شرقها الأوسط الجديد أو إعادة «الشرق الأوسط القديم»، وهى الآن مرتبكة، ومن خلفها حلفاء أكثر ارتباكا وأقل ثقة فى قيادة ترامب، الذى لا يبدو قادرا أو معنيا بالتوصل إلى تسوية لأزمات وحروب المنطقة، سواء بالتفاوض أو استخدام القوة، وبدأت تتجلى أعراض التراجع الأمريكي، وظهر شرخ ممتد من تركيا إلى قطر، ولا يبدو أن الولايات المتحدة راغبة أو قادرة على رأب الصدع الخليجى القابل للاتساع، فلا هى لجمت قطر وضغطت عليها بما يكفى لعودتها صاغرة إلى بيت الطاعة الخليجي، ولا برأتها من دعم الإرهاب ورفضت قرارات مقاطعتها، بل اكتفت بانتقادها وإدانة سلوكها، فى نفس الوقت الذى تعقد معها الصفقات العسكرية والمناورات البحرية. 

هكذا يبدو أن الولايات المتحدة تستفيد من الأزمة الخليجية، سواء بعقد الصفقات الترليونية أو استغلال خوف دول الخليج من تنامى قوة إيران وانتصارات العراق وسوريا، ودفعها إلى التحالف مع إسرائيل، وهو سيناريو شديد التكلفة وصعب التنفيذ، لأن التحالف مع إسرائيل بدون تنازلات إسرائيلية فى القضية الفلسطينية لن ينجم عنه سوى المزيد من التصدع والخلافات. 

إن التحالف الروسى الإيرانى السورى العراقى أصبح أكثر قوة وثقة فى كسب الحرب، ولهذا أعلن الرئيس الروسى بوتين عن البدء فى سحب القوات الروسية المنتشرة فى سوريا إلى قاعدتى طرطوس وأحميميم فقط، مع تعزيز الجيش السورى بالمزيد من السلاح، بينما الولايات المتحدة تدفع بقوات جديدة إلى شمال سوريا وجنوبها، لكن التحرك الأمريكى لا يبدو أنه قادر على إبطاء انتصارات الجيش السوري، الذى سيطر على أكثر من 25 ألف كيلو متر مربع فى أقل من شهر، ويواصل تقدمه شرقا وجنوبا، والتقى لأول مرة بالجيش العراقى على الحدود السورية ـ العراقية شمال بلدة التنف، بينما القوات الأمريكية تقف عند الحدود الأردنية وتتابع بحسرة تقدم الجيش السورى وحلفائه، وتكتفى بالتعبير عن غضبها بشن غارة أو إطلاق عدة صواريخ على القوات السورية من وقت إلى آخر، وهى تدرك أن تلك الضربات لن تجدى نفعا فى تغيير مسار المعارك التى تبدو محسومة. 

هزائم داعش السريعة، وعدم وجود حليف قوى للولايات المتحدة على الأرض، دفعها إلى تقديم المزيد من الدعم العسكرى لأكراد سوريا، حتى لا تخلو الأرض للجيش السورى وحلفائه، وهو ما زاد من قلق حليفها التركى أردوغان، الذى أعلن أن الخطر الأول على تركيا هو أكراد سوريا، لتتفاقم الأزمة بين تركيا والولايات المتحدة، وتنتقل إلى مرحلة خطيرة، خصوصا مع افتتاح القاعدة العسكرية التركية فى قطر، التى تريد منها تركيا مزاحمة أمريكا فى أهم مناطق نفوذها، ومشجعة لقطر على العناد وعدم تقديم تنازلات، وهو ما أدى إلى تحول الصداقة التركية ـ السعودية إلى خلاف مرشح للتصعيد، خاصة مع اعتقاد أردوغان أنه سيكون الهدف التالى بعد قطر، وتحميله مسئولية دعم الجماعات الإرهابية فى سوريا والعراق، بعد أن كان محل تقدير وإشاده لدوره الرئيسى فى تغيير خريطة الشرق الأوسط، ليجد أنه مهدد بتغيير خريطة تركيا وتقسيمها. 

بوتين يشعر بالارتياح والثقة من أن التحالف الذى يقوده يوشك على تحقيق انتصار كبير، فالعراق يقترب أكثر فأكثر من روسيا وإيران وسوريا ، وعلى أعتاب التحرير الكامل للموصل أكبر وأهم معاقل داعش، والتى لم يعد لداعش فيها سوى جيب صغير، لا يتجاوز 1%، وقوات الحشد الشعبى المرعبة لدول الخليج تواصل التقدم على الحدود العراقية مع سوريا، وتزداد كفاءة وثقة وقوة، وتثير المخاوف من قدرتها على التدخل العسكرى فى محيطها الذى يزداد سخونة بفعل الأزمات المتفاقمة فى منطقة الخليج. 

لم تعد المنطقة قادرة على تحمل المزيد من الحروب والأزمات، فالجميع متعبون من نزيف الدماء والدموع والخسائر الاقتصادية، وأصبحت الأوضاع فى اليمن أكثر كارثية بعد تفشى وباء الكوليرا فى معظم محافظاتها، ويموت العشرات يوميا بفعل الأمراض أو المعارك التى دخلت عامها الثالث، وأصبحت أمثولة لأحوال العرب. 

هناك تحول لافت قد يبعث على القليل من الأمل، وهو الإدانة شبه الجماعية للإرهاب، ووقف الاستثمار فى توظيف الجماعات التكفيرية لتحقيق أهداف سياسية، لكن هذه المواقف لم تتجاوز الإعلانات الشفهية، ولم تتحول إلى مواقف عملية، رغم أن هزائم الجماعات الإرهابية فى سوريا والعراق وليبيا لم تعد تغرى بمزيد من الإنفاق عليها، وتوقف تمويل معظمها، لكن الصراع يمكن أن يتخذ شكلا جديدا بمواجهة مباشرة بين جيوش الدول المتنافسة على قيادة المنطقة، ورغم التشجيع الأمريكى لمثل هذا الصراع، وطرح التحالف مع إسرائيل لمواجهة إيران وحلفائها، فلا يبدو أن أمريكا أو إسرائيل مستعدة لأن تكون فى صدارة مثل هذا الصدام، بل ستكتفى بالدعم والتشجيع، ليدفع العرب ثمنا أكثر فداحة من الدماء والأموال من أجل شرق أوسط أكثر رعبا، لا ينبغى التورط فيه، بل البحث عن مخرج سريع منه، والاستفادة من هزائم الجماعات التكفيرية، وفتح مسار لحوار يخرجنا من دوامات الحروب العبثية والمجنونة التى لا يمكن أن يربح منها أى طرف.