عبد الوهاب بدرخان

النار التي اجتاحت «برج غرينفيل» السكني، غربي لندن، والدخان المنبعث من طبقاته الأربع والعشرين، تحوّلا فجر الأربعاء كابوساً بريطانياً غير متوقّع. لولا استفاقة السحور الرمضاني لبعض السكان لما أمكن إنقاذ المئات من نحو ستمائة يقطنون ذلك المبنى. ولكن نحو مئة منهم ماتوا في هذه المحرقة العلنية. بعضٌ منهم شوهد على النوافذ في آخر تلويحة استغاثة أو يرمي بأطفال إلى الجموع التي تلقفتهم، بعض آخر قفز آملاً في النجاة بأعجوبة أو في ميتة أقلّ تعذيباً من اللهب والاختناق، وهناك مَن خدّرهم الغاز المنتشر فقضوا وهم نيام... كان المشهد مخيفاً، ولوهلة اعتقد كثيرون أنه جريمة إرهابية أخرى أو أنه من أعمال مجموعة عنصرية ضد مبنى معظم سكانه من الغرباء، فانشغلت الفضائيات باحثة عن تفسير لحريق استحكم في لحظات خاطفة بالبناية من أسفلها إلى أعلاها. وكان لا بدّ أن تمر بالمخيّلات مآسي تفجير البرجَين في نيويورك (2001)، أو مشاهد فيلم «زلزال» (1974) عن إنقاذ الموجودين في برج يتزعزع أساسه بفعل هزّة عنيفة. قال القدامى والمخضرمون من رجال الإطفاء والإنقاذ أنه لم يسبق أن رأوا شيئاً مماثلاً.

عرب وأفارقة وأوروبيون وإنجليز لفظهم ذلك البرج أو تحوّل مقبرة لهم. ثلاثون أمكن تحديد مصيرهم رسمياً بأنهم موتى، سبعون آخرون اعتبروا مفقودين ولا أحد يجهل مصيرهم، فقد تفحّمت أجسادهم، وبعد أكثر من يومين كان البحث جارياً عن أفضل طريقة لسحب ما أبقته النار من فتحية، نورا، ماركو، جيريميا، زينب، مارجوري، دنيس، فاطيما، رانيا، فرح، عمر، ستيف، حميد، ريموند، خديجة، وآخرين... صورة مصغّرة عن مجتمع مختلط يجمع بين أناسه كونهم شباباً يبنون مستقبلهم، مسنّين أو مهاجرين ولاجئين يعيشون على المساعدة الحكومية، أو عائلات غير ميسورة وجدت في هذا البرج ملاذاً بإيجار رخيص. عائلة شقير اللبنانية، الأخوان الحاج علي السوريان الهاربان من جحيم درعا، عائلات هاشم وبلقادي ووهابي وحمدان... أسماء قد لا تعني شيئاً للعالم الذي روّعه هذا الحريق، ولكنها صارت تعني الكثير لهذه «الجالية» التي وجد أفراها أنفسهم مرميين على الرصيف المقابل لما كان بيتهم، ولم يجدوا سوى المسجد القريب مكاناً للإسعافات الأولية.

كان البرج مهيئاً للمأساة. سبق أن تفادى الكارثة قبل أربعة أعوام، وأجريت عمليات صيانة لم يمضِ عليها عام، ولكنها بدل أن تحصّنه يبدو أنها ألبسته تلك الكسوة المعدنية سريعة الاشتعال. ثمة إهمال، ثمة أخطاء، لكن ثمة فساد، وها هي المحصّلة الفظيعة، فالناجون فقدوا أوراقهم ومتعلّقاتهم ولا يملكون شيئاً. يريدون إغاثة سريعة ليتجاوزوا الصدمة، لكنهم أصبحوا قضية قابلة للتسييس، على خلفية التمييز في معاملة الغني والفقير، وفي توفير الموارد والوسائل اللازمة لإنقاذ مَن كان يمكن إنقاذه. قصد زعيم حزب العمال باكراً مكان تجمّع الناجين، جالسهم وأصغى إلى حاجاتهم وجلب بعض الإغاثة. وذهبت زعيمة حزب المحافظين لتفقّد المبنى من موقع قريب. واستشعرت الملكة إليزابيث هذا الخطأ فاستدركته في اليوم التالي بالنزول شخصياً، كذلك فعلت تيريزا ماي. لكن الفارق حصل وأبرزته الصحف لتقول إن رئيسة الوزراء لم تستوعب البُعد الاجتماعي الذي ظهّرته نتائج الانتخابات الأخيرة، وذكّرتها بأن مارغريت تاتشر سقطت عندما بالغت في إهمال الإشارات الإنسانية والاجتماعية التي كان الناخبون يرسلونها عبر صناديق الاقتراع.

بدا هذا البرج المحترق كأنه تجسيد لأزمة متفاقمة، وبدا هول المأساة بمثابة إنذار مفعم بالدلالات على رغم أنه لم يعطّل الحياة العامة أو يتسبب باضطرابات. لم يكن الغضب الذي يرافق سقوط ضحايا في أي عمل إرهابي يوجّه أصابع الاتهام لتوجّه أولاً إلى تقصير أمني أو حتى حكومي. هذه المرّة انصبّت النقمة على تقصير في صون الأمان المجتمعي. بات يُعزى ذلك إلى جملة سياسات عناوينها الرئيسية أزمة اقتصادية متواصلة اختُزلت أسبابها بازدياد العمالة الأجنبية وأعداد المهاجرين واللاجئين وضخامة فاتورة المساهمة في الاتحاد الأوروبي، وإذ جرت محاولات لمعالجتها في اتجاهين: أولهما التقشّف والتخفّف من واجبات والتزامات حكومية ما أدّى إلى تراجع في الخدمات الأساسية وتخبّط في إدارة الشأن العام، وثانيهما الاستعداد للخروج من الاتحاد الأوروبي بغية تصويب الميزانية مع أن كل خطط الـ«بريكسيت» تنذر بخسائر وأزمة مالية معروفة البداية ولكن مجهولة النهاية. والأهم في كل ذلك أنه يمرّر بضغط هائل على مكاسب الفئات المتوسطة وما دونها بلا أي حساب للنتائج.