محمد العسومي 

صدرت خلال الآونة الأخيرة مؤشرات على إمكانية تراجع الاتحاد الأوروبي عن مواقفه السابقة بخصوص توقيع اتفاقية تجارة حرة مع دول مجلس التعاون الخليجي، وذلك بعد ثلاثين سنة تقريباً من التردد ومزج القضايا الاقتصادية بالسياسية، وهو أمر رفضته دول المجلس، والتي حاولت كثيراً التوصل إلى حلول وسطية دون جدوى بسبب تعنت بعض دول الاتحاد الأوروبي التي أصرت على محاولة التدخل في الشؤون الداخلية للدول الخليجية، ما فوت فرصاً ذهبية لتنمية التجارة والاستثمار بين المجموعتين. الجديد، أنه في شهر مايو الماضي صرح «دولتر ستيفنز» رئيس لجنة السياسة والأمن بمفوضية الاتحاد الأوروبي من أن جولة تفاوض ستعقد قريباً بشأن اتفاقية التجارة الحرة مع مجلس التعاون، مضيفاً أن دول الاتحاد منفتحة تماماً على أي نقاشات إضافية في هذا الجانب.

الرد الخليجي جاء سريعاً وواضحاً (دول مجلس التعاون تؤكد أن مفاوضات التجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي لن تستأنف إلا إذا كانت الظروف التفاوضية مناسبة لإنجاز تقدم)، أي أن دول المجلس ليست في عجلة من أمرها لتوقيع هذه الاتفاقية، كما أن بلدان الاتحاد تدرك جيداً ما تضمنته الرسالة الخليجية من علامات بين السطور، وهو الفصل بين قضايا اقتصادية وتجارية مهنية وبين مطالب لا علاقة لها بهذا الشأن الخاص بتنمية العلاقات بين الطرفين.

لماذا تراجع الاتحاد الأوروبي، بعد أن أعاق توقيع الاتفاقية لثلاثة عقود؟ هناك العديد من الأسباب، والتي تأتي في مقدمتها، التغيرات الهائلة في العلاقات التجارية الدولية، والتي أدت إلى تراجع الحصة التجارية لدول الاتحاد، ووجدت بدائل عديدة، فقبل ثلاثين عاماً كان من الصعب استبدال السلع والخدمات الأوروبية، في حين تتوفر في الوقت الحاضر بدائل أرخص وبجودة عالية.

ففي السنوات الماضية التي جرت فيها المفاوضات الخليجية الأوروبية تجاوز حجم الاقتصاد الصيني اقتصادات كافة البلدان الأوروبية الكبرى، ابتداء من فرنسا وانتهاء بألمانيا، مروراً بالمملكة المتحدة، كما أنها أزاحت دول الاتحاد عن مركزها المتقدم في تجارة دول المجلس لتتربع على قائمة الشركاء التجاريين للدول الخليجية إلى جانب الهند.

في الوقت نفسه، قطع مجلس التعاون خلال الفترة الماضية شوطاً كبيراً في توقيع اتفاقيات تجارة حرة مع العديد من بلدان العالم، كما أنه بصدد توقيع اتفاقية مماثلة مع الصين هذا العام، وهو يجري مباحثات جادة وسريعة لتوقيع اتفاقية للتجارة الحرة مع بريطانيا، وربما النقطة الأخيرة، هي التي أثارت حفيظة الاتحاد الأوروبي، حيث ستترتب على اتفاقية الخليج وبريطانيا تداعيات عديدة باعتبار الأخيرة دولة أوروبية يمكنها توفر الكثير من البدائل عن بلدان الاتحاد الأوروبي.

مجمل هذه القضايا والتطورات أحدثت تغيرات جذرية في العلاقات التجارية بين مختلف دول العالم، بما في ذلك العلاقات الخليجية الأوروبية، ما استدعى إعادة النظر وإعادة تقييم علاقات الاتحاد بكافة الأطراف، بما فيها مجلس التعاون الخليجي الذي يلعب دوراً متنامياً ليس في التجارة الدولية فحسب، وإنما في مجالات الاستثمار والنقل والسياحة والخدمات المالية.

ومع ذلك، فإن على دول المجلس أن تستفيد من النافذة التي فتحها الاتحاد الأوروبي إذا كان جاداً في تجاوز الخلافات السابقة، فالاتحاد يبقى طرفاً مهماً في العلاقات الاقتصادية الدولية يمكن الاستفادة كثيراً من تنمية العلاقات التجارية معه بشرط أن تكون دعوته معبرة عن توجه حقيقي لا تخضع لاعتبارات وقتية تتعلق فقط بالأسباب التي أشرنا إليها آنفاً، مما سيفتح مجالات واسعة لتنمية التجارة والاستثمار بين دول مجلس التعاون الخليجي ودول الاتحاد الأوروبي التي يعاني العديد منها صعوبات اقتصادية ومالية معقدة ومزمنة.