ليونيد بيرشيدسكي

مع استعادة الموصل من تنظيم داعش الإرهابي، وجزء من البلدة القديمة قد وقعت بالفعل في أيدي الجماعات المدعومة من الولايات المتحدة، ربما بعد أسابيع قليلة من السيطرة عليها، من المرجح للتنظيم الإرهابي أن تُمحى آثاره تماماً من خرائط منطقة الحروب. وعلى غرار اللورد فولديمورت من النسخ الأولى لكتاب «هاري بوتر» الشهير، لن يكون للتنظيم وجود مادي على أرض الواقع، ولكنه سوف ينتقل للحياة على أشكال أخرى من الوجود: عقول وأذهان المقاتلين الأجانب العائدين إلى بلادهم، والوجود الإلكتروني الذي أنشأه التنظيم، وقلوب السكان السنة الساخطين في المناطق التي سيطر عليها التنظيم الإرهابي لعدة سنوات.

ومن المهم للغاية تقييم المخاطر الثلاثة الكامنة والبدء فوراً في التعامل معها قبل حلول الهزيمة العسكرية النهائية لتنظيم داعش، والتي باتت تلوح في الأفق.

ولقد قيل إن المقاتلين الأجانب قد بدأوا في التخلي عن الفكرة للخلافة بمجموعات كبيرة، وهم المقاتلون الذين لم يتعرضوا للقتل ويصعب الوقوف على أعدادهم الحقيقية. ولكن الآلاف منهم لا يزالون داخل سوريا والعراق، وسوف يحاول كثير منهم العودة إلى أوطانهم.

في عام 2013، قدر توماس هيغامر، الخبير في شؤون المقاتلين الأجانب لدى جامعة «أوسلو»، أنه من بين 401 إرهابي الذين شاركوا في الهجمات التي شهدها الغرب بين عامي 1990 و2010، هناك 107 منهم قد سافروا إلى بلدان أجنبية للقتال في صفوف المتطرفين. كما قدر السيد هيغامر أن واحداً من كل تسعة مقاتلين أجانب يعود لشن الهجمات في الغرب، ولكن، في دراسة نشرت عام 2016، قال دانيال بيمان من جامعة «جورج تاون» إن التقدير الدقيق لا بد أن يكون واحداً من كل عشرين مقاتلاً أجنبياً. وهذا لا يزال يعني شن مزيد من الهجمات، مع اعتبار قوة جذب واستمالة تنظيم داعش للمقاتلين الأجانب أول الأمر.

ووفقاً للسيد بيمان، فإن التهديدات التي يشكلها المقاتلون العائدون مبالغ فيها. فإن المقاتلين الأجانب السابقين يمرون بعدد من المنحدرات القوية على السبيل المؤدي إلى الإرهاب، حتى وإن تجاوزوا الصراعات الشديدة التي يذهبون للقتال فيها. بعضهم ينطلق للمشاركة في حروب أخرى في منطقة الشرق الأوسط، والفرصة متاحة الآن أمام مقاتلي «داعش» للانتقال إلى أفغانستان وغيرها من الأماكن التي تنشط فيها خلايا التنظيم. وتعترض أجهزة الاستخبارات سبيل بعضهم، ويخضعون للمراقبة المكثفة حتى يفقدوا فعاليتهم كإرهابيين محتملين. والبعض الآخر يجد الطريق عسيراً للغاية، وربما مهيناً، في تطبيق المهارات التي اكتسبوها خلال القتال في الحرب الأهلية، على التخطيط السري لشن الهجمات على المدنيين في بلدانهم.

ولكن، في حالة مقاتلي «داعش» العائدين، فإن أغلب أسباب عدم مواصلة سبيل العنف سوف تكون أسباباً نفسية. وكما كتب السيد بيمان يقول:

في البداية، كان مجرد الدفاع عن الشعب السوري ضد وحشية النظام الحاكم هناك هو الدافع الرئيسي لكثير من المقاتلين الأجانب، وليس الدفاع عنهم ضد العدو الغربي أو العدو الأجنبي أيا كانت ماهيته. ولقد شارك أغلبهم في القتال من أجل تأمين حقوق التباهي والتفاخر بين المعارف والأصدقاء، أو سعياً وراء الإثارة والمغامرة الحقيقية. ومن وجهة نظرهم، كانت سوريا تحظى بجاذبية كبيرة وسبيل مشرف لهم للقيام بذلك.

ولكن شن الهجمات على الجيران المسلمين المسالمين هو أكثر تناقضاً وإثارة للشكوك من التباهي والتفاخر بمساعدة الآخرين.
إلى جانب ذلك، سوف يرجع كثير من المقاتلين إلى أوطانهم بخيبة الأمل. فلقد روجت الآلة الدعائية لتنظيم داعش، لأراضي الدويلة الموهومة بأنها جنة من الجنات على الأرض، استنادا إلى أهدافهم وأفكارهم. ولكن في واقع الأمر، لم يتمكن كثير من المقاتلين الأجانب من الاندماج مع السكان المحليين، وكانوا يُكلفون مهام شاقة وعسيرة، وكانوا مروعين من وحشية الصراعات المدنية في منطقة الشرق الأوسط، ولا سيما بعد الهزيمة العسكرية التي لحقت بهم. ويرجع الأمر إلى المجتمعات الغربية إن كانت تود التواصل معهم وتطلب مساعدتهم في مواجهة مزيد من الدعاية الإرهابية القميئة. ويمكن الاستفادة كثيرا من التجربة الدنماركية في إعادة تأهيل المقاتلين الأجانب بعد عودتهم إلى أوطانهم.

سوف تظل شبكة الدعاية المتطرفة التابعة لتنظيم داعش مستمرة بعد الهزيمة العسكرية على الأرض، على الرغم من أن الموارد المالية المتناقصة بشدة لدى التنظيم سوف يكون لها أبلغ التأثير على العمليات الإعلامية المتطرفة لديه. وفي خاتمة المطاف، فإن شن حملات التجنيد عبر منافذ التواصل الاجتماعي الإلكترونية من المهام الرخيصة، ونزع الجاذبية عن الخطاب المتطرف العنيف ليس إلا مناورة من مناورات الإعلام والإعلام المضاد. ولكن دعاة التنظيم والفكر المتطرف سوف يواجهون متاعب جمة مع دعواهم في الواقع الجديد.

كان حلم إقامة الدويلة الفعلية إحدى أقوى أدوات الدعاية لفترة من الوقت انقضت، كما ذهبت ضجة الانتصارات المبكرة أدراج الرياح سواء بسواء. ولقد صار كل ذلك جزءاً من الماضي الآن، ويتعين على منافذ الدعاية المتطرفة الترويج من جديد لفكرة الانتقام والثأر المستنزفة. وهي لا ترقى إلى مستوى ضخامة المعركة المروعة التي تلوح في أفق الأحداث ضد الصليبيين بالقرب من مدينة دابق السورية، ولقد كانت من الركائز الأساسية في دعايات تنظيم داعش خلال السنوات السابقة، حتى تمكنت قوات المعارضة السورية من الاستيلاء على بلدة دابق من عناصر «داعش» في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، ومن دون مزيد من الضجيج والدعايات.

وعما قريب سوف يتحول تنظيم داعش إلى مجرد جماعة إرهابية أخرى تحاول جذب الانتباه من جانب المجندين الغاضبين المحتملين هنا وهناك. يصعب كثيرا تسويق الهزيمة، تماما كما تبين لتنظيم القاعدة الإرهابي عبر السنوات الطويلة، في حين يتعرض قادة التنظيم للاغتيال وتدمير قواعده ومعسكرات التدريب التابعة له واحداً تلو الآخر. وكان صعود «داعش» يعتبر مستحيلاً من دون القضاء التام على تلك العلامة الإرهابية الكبرى، أي القاعدة.

إن مآسي العرب السنة في المناطق المحررة من العراق وسوريا كبيرة وعميقة للغاية، للتعامل معها بأكثر من صعوبة التعامل مع المقاتلين العائدين أو العمليات الدعائية المستمرة من قبل «داعش». إذ لم يكن باستطاعة «داعش» مواصلة السيطرة على تلك الأراضي من دون الدعم الشعبي من السكان المحليين هناك.

إن مدينة الموصل دُمرت بالكامل في نفس يوم تحريرها، ولسوف يأتي الدور على مدينة الرقة قريبا. وإعادة إعمار هذه المدن – فضلاً عن المناطق الأخرى المحررة سلفاً من أيدي «داعش» – هي من المهام الطويلة المنهكة نظراً لقلة موارد الحكومة العراقية وقوات المعارضة السورية. غير أن التوصل إلى تسوية سياسية هو السبيل الأكثر واقعية، ولكنها عملية مطولة سوف تستغرق مزيداً من الوقت. ومن المرجح للمناطق التي احتلها «داعش» أن تكون أسوأ حالاً مع الاختفاء التام لمظاهر التنظيم الإرهابي من هناك.

وقد خلص تقرير صادر عن مؤسسة «راند» في عام 2013 إلى أن محاولة تلخيص التجربة الحديثة للتعامل مع عمليات التمرد في استراتيجية واحدة فقط (من أصل 24 استراتيجية أخرى) أسفرت عن حالة من الفشل الذريع: «السحق التام» أو «تصعيد القمع والعقاب الجماعي». وهو لا يزال من السيناريوهات المحتملة في هذه المرحلة، الأمر الذي يخشاه السكان المحليون من الحكومة العراقية الحالية. والحل الناجع يتمثل في قوات الشرطة الواثقة إلى جانب جهود إعادة البناء، وهو المزيج الذي يصعب الحصول عليه الآن.

ويعكس تقرير صادر في يونيو (حزيران) عن مركز مكافحة الإرهاب الملحق بالأكاديمية الحربية الأميركية، أن «داعش» لا يزال نشطاً في المدن المحررة، ويشن الهجمات الإرهابية، ويحتفظ بدرجة من الوجود السري. ولا بد من وجود بديل أفضل للسكان المحليين بدلاً من التمرد الجديد، وذلك هو التحدي الكبير الذي تواجهه مدينة الموصل، ومن بعدها الرقة.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»