صالح الديواني

لا يتذكر البقية المتبقية من أفراد الصحوة والمنخدعين بشعاراتها والمعجبين بأساليبها الملتوية، الجنودَ المرابطين والجيوش، وما يسمونه مصلحة «الأمة وليس الوطن»، إلا حينما تظهر بوادر العمل على إصلاح ما خربته صحوتهم المزعومة في المجتمعات الإنسانية على مدى تاريخها، من خلال لَيّها للنصوص الدينية على اختلافها، وإرسالها صيغا تناسب مستوى فهمهم لها من جهة، وأهدافهم البعيدة التي طالما عملوا من أجلها، وحَشْوِهم في أذهان الناس الأحاديث الضعيفة الأسانيد، والمتون المنسوبة إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- لصناعة وعي مزعوم خاص بالضرورة، يسير وفق برنامج معد مسبقا، وهذا أحد أهم المؤشرات على ضحالة قراءاتهم وسطحية تناولهم لصحيح المنقول عن الرسول. 
لذلك، تجدهم اليوم مع اتساع دائرة المعرفة، وانتقال المعلومة ومصادرها، يتساقطون كأوراق يابسة تلفظها الشجرة. 
ولا يتوانى الصحويون في انتقاد كل ما يخالف نهجم، بكل ما أوتوا من طرق، حتى لو كان ذلك لا يخضع لا لمنطق ولا لناموس اجتماعي.
في السابع من يوليو الجاري، حضرت حفل فنان العرب محمد عبده على مسرح المفتاحة وسط أبها، للاستمتاع بجزء صغير من الفنون الطربية الملهمة للنفوس، وكنت قبلها تجوّلت في الشوارع المحيطة بالمكان، ولفت انتباهي وجود أعداد كبيرة من الناس يفترشون أرض الحدائق، ومنهم من اتخذ من سيارته مكانا يقضي فيه وقتا معلوما، في انتظار فتح أبواب مسرح المفتاحة الرائع للدخول، وليأخذوا أماكنهم على مقاعده، والاستماع إلى أغنيات فنان العرب محمد عبده، وموسيقى فرقة المايسترو وليد الفايد.
وتأملت في وجوه الحضور الكثيف داخل المسرح، ولفت نظري أن أكثر من 99% -دون مبالغة- من الشباب، كنت أبحث بينهم عن ستيني أو خمسيني على الأقل لأبرر حضوري إلى جواره وأنا في نهايات الأربعينات بين هؤلاء الشباب العشريني والثلاثيني.
هذه الشريحة الغالبة من فئة الشباب، تبعث برسالة قوية إلى كل الانتهازيين من حولنا، من أصحاب الفكر الصحوي، مفادها أن المجتمع تغيّر وأصبح وجهه شابا بامتياز، يفكر بطريقة مختلفة، ويرغب في الحياة المستقرة أكثر من أي شيء آخر، وأن لهم عالمهم الجديد، وأنهم لا يهتمون إلا لكل ما تحمله الحياة من وعي وسلام ومحبة وبهجة دون توجيه من أحد باسم الله، وأدركوا أن الأصوات التي تتعالى عبر وسائل التواصل الاجتماعي مستجدية عواطف الناس، من خلال عقدها المقارنات بين حفلات أبها ومرابطة الجنود على الحد الجنوبي، تبدو فكرة نمطية خبيثة المضمون، كما هو معتاد من هذا التيار المرتبك فكريا، الذي ابتهج وهلل أفراده حينما شاهدوا إنزال اللوحات الإعلانية لبقية الحفلات الغنائية من الطرقات، وذهبوا لبث الإشاعات وإطلاق الهاشتاقات على منصات التواصل الاجتماعي بحماسة، لكن الرد جاء سريعا ومفحما من هيئة السياحة بعسير، بإصدار قرار ينهي اللغط، ويوضح إعادة جدولة الحفلات فنيا وزمنيا، وتأجيلها إلى أغسطس القادم، وهو -من وجهة نظري- قرار صائب وفي مكانه الصحيح، يتجنب تعارض الفعاليات الثقافية والسياحية في مناطق المملكة مع بعضها، كسوق عكاظ الذي انطلق قبل أيام بالتزامن مع مواعيد بعض حفلات صيف عروس الجبال أبها في الفترة نفسها، وكان ذلك التوضيح بمثابة الصاعقة التي سقطت على رؤوس مطلقي تلك الإشاعات.
أنا على يقين أن بقايا الصحويين يعيشون خارج التاريخ، بإصرارهم على انتهاج مضامين ثقافتهم السطحية المكشوفة، وتطبيقهم خططهم القديمة نفسها، إذ في الواقع لم يطرأ جديد على مضمون مادتهم «الدعوية» ولا على أسلوبها وطريقتها، سوى قدرتهم على تطويع بعض التقنية الحديثة لخدمة مشروعهم المرتبك دينيا وأخلاقيا باسم الدين من ناحية -مع تحفظي على هذه التسمية لما يمارسونه- وهو أسلوب بات مكشوفا لشريحة عريضة من المجتمع، أو باسم الوطن وجنوده المرابطين على الحدود الجنوبية للدفاع عن أمنه ومقدراته، من جهة ثانية.
أتساءل: لماذا لا يدرك هؤلاء أن الوطن للجميع -على اختلاف ثقافته وأمزجة أهله- وأن كلمة «الجميع» هنا لها مدلولاتها العبقرية التي تجعل من مفهوم الوطن أكثر إنسانية. 
فالأوطان دون تنوع لا تعني شيئا جميلا، ولا تعكس مظهرا إنسانيا، لأنها حين تكون أحادية في كل شيء لا تصلح إلا أن تكون مصنعا للروبوتات الآلية، وليس للإنسان المبدع العظيم.
على الرغم من كل ذلك، إلا أن أبها عادت لتتنفس الحياة والفن، وأشياء أخرى تؤكد على التحليق في الفضاءات البهيجة.