حمّاد السالمي

«يرى علماء النفس؛ أن الحزن حالةٌ نفسيةٌ طبيعية، تتمثل بمشاعرَ سلبيةٍ ممزوجةٍ بالألم النّفسي والشّعور بانكسارِ القلب، نَتيجةً للمرور بظروفٍ ما، أو التّعرض لضغوطاتِ الحياة، وهو يؤثر على أجهزةِ الجسم العضوية، وقد يُسبّب كثرة الشعور به إلى الإصابة بالعديد من الأمراض أهمها: ارتفاع ضغط الدم، والسكري، وغيرها.

«وللحزن علامات نفسية وجسدية كثيرة تظهر على الشّخص المصاب، من أبرزها: الرغبة في البكاء، أو البكاء فعلياً، وانهمار الدّموع من العينين، ويعتبر البكاء أهم علامة ظاهرة من علاماتِ الحزن. الوُجوم وتَغير ملامح الوجه إلى الوجوم والتكشيرة، وعدم الرّغبة في الضحك أو الابتسامة أبداً. الميل للعزلة والانطواء والانفراد، وعدم الرّغبة في رؤية أحد، أو الحديث مع الناس. الميل للتفكير المتشائم، وسيطرة الأفكار السوداوية على العقل، والتفكير بطريقةٍ سلبيةٍ جداً، بعيدةٍ عن التفاؤل والإيجابية. عدم الاستجابة إلى أيٍّ من المؤثرات الخارجية التي تدعو للفرح، مثل حفلات الفرح والمناسبات الأخرى. فقدان الرّغبة في الحياة، وارتفاع مستوى الرّغبة في الموت، حتى إنّ بعض حالات الحزن؛ تُغري صاحبها بالانتحار أو الميل للعدوانية والعصبية والغضب الشديد، والتخلّي عن حالةِ التوازن الطبيعية واختلالها.

«ماذا نرى في المشهد الإسلامي العام؛ والعربي الخاص؛ في عدة أقطار من أقطاره..؟ كل ما تقدم نراه في وجوه ضحايا الخوف والجوع والمرض..؟ ويتجسد في حياة المنكوبين جراء الفتن والاقتتال التي خربت المدن، وقتلت الأبرياء، وشوهت الأطفال والنساء، وهجرت الملايين إلى ديار غير ديارهم..؟ ماذا نرى غير دلائل البؤس والشقاء، وعلامات الحزن والبلاء..؟ لا نقول بأن الحزن حالة خاصة بالمسلمين، ولكن شيوعها في حياتهم أظهر، وأثرها عليهم أبرز.

«منذ أربعة وثلاثين عامًا؛ نشر الكاتب المفكر (حسين أحمد أمين)، كتابًا أسماه: (دليل المسلم الحزين). الكتاب ذاع صيته، وتكررت طبعاته، وجوبه بهجوم شرس من الظلاميين ذوي التشدد والتطرف، وخاصة من طرف (جماعة الإخوان المجرمين)، التي رأت أنه يهز عروش وصايتها على المجتمعات الإسلامية.

«جاءت فكرة الكتاب الأساسية قوية ومقنعة، ويمكن تلخيصها في الآتي: ( أن المسلم في عصرنا هذا؛ حزين. لأنه لا يستطيع التوفيق بين ما يؤمن به ويفرضه عليه دينه، وبين ما تفرضه عليه الحياة المعاصرة من ضرورات الحياة اليومية، وما تحثه يوميًا على أتباعه من أنماط السلوك ). يقول جلال أمين الذي هو أخ لحسين أمين مفسرًا هذه الحالة:( إن المسلم يرى أنه إذا اتبع ما يفرضه عليه دينه؛ فهو مضطر للتنكر لما أصبح مألوفًا وسائدًا بين الناس، وإذا ساير المألوف والسائد بين الناس؛ وجد نفسه مضطرًا للانحراف عن مبادئ دينه وتعاليمه).

«قلت: والمشكلة إذن هي في المسلم لا الإسلام. ذلك أن تفكيره قاصر عن استيعاب مستجدات عصره، وعاجز عن تطويع هذه المعطيات حياتيًا فيما يخدم الدين والدنيا معًا، خاصة وأن هناك نماذج تطبيقية ظهرت تثبت أن الدين ليس عقبة أمام الفكر المبدع والمنفتح، وماليزيا المسلمة؛ خير ما يُستشهد به في هذه الحالة.

«مؤلف الكتاب يرى: أن الحل في التمييز بين مبادئ الدين الخالدة على مر العصور- وباختلاف الأماكن والثقافات- وبين التفسيرات التي تواجه ظروفًا تاريخية واجتماعية معينة؛ (أو ما يسمى أحيانا بالاجتهاد). الأولى: إلاهية وثابتة لا تتغير، والثانية بشرية تتغير بتغير الزمان والمكان.

«أما (الحزن) الذى يصيب المسلم المعاصر- فهو على رأي مؤلف الكتاب- ليس إلا نتيجة العجز عن هذا التمييز. إذ إن هذا التمييز بين الخالد والعارض؛ يسمح للمسلم بأن يوفق بين متطلبات دينه ومتطلبات حياته اليومية، أي بين متطلبات الدين والدنيا.

«هذه الدعوة إلى التمييز بين الجوهري الثابت، والثانوي العارض، ليست فقط دعوة صائبة، ولكن أيضا تكرر القول بها في صورة أو أخرى منذ الأيام الأولى من التاريخ الإسلامي، فالقول المأثور عن النبي عليه الصلاة والسلام: ( أنتم أعلم بشئون دنياكم )؛ ينطوي على شكل من التمييز، ومثله ما أثر عن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، من وقف حد السرقة في عام المجاعة، وكذلك فتاوى بعض الفقهاء، الذين مارسوا الاجتهاد منذ ذلك الوقت، والذين رفضوا اعتبار مسايرة بعض متطلبات الظروف المتغيرة، خروجًا على مبادئ الدين، أو تنكرًا له.

«إن حالة المسلمين في هذا القرن الواحد والعشرين؛ تعكس بكل حدة؛ هزائمهم النفسية في مواجهة الحياة المعاصرة، وهي هزائم ملازمة لهم منذ زمن بعيد، ولهذا استفحلت أمراضهم، وعظمت أحزانهم، فدفعتهم إلى تفضيل الموت على الحياة، فعشنا زمن تكفير الأعيان، وتفجير الأوطان، والتفخيخ والانتحار، وقتل الأنفس البريئة، ومنها قتل الوالدين بأيدي أبنائهم والعياذ بالله..!

«من السهل أن نرى علامات الحزن على وجوه الناس؛ وأن نعيش مآسيهم التي لا تتوقف، ومن السهل أن نقف على أعراض لأمراض تعتور الكثيرين الذين يقفون حائرين بين ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم. ليس بوسع الماضويين الاندماج في حاضرهم؛ عوضًا عن الاستعداد للدخول في المستقبل. الماضويون عادة؛ يلبسون على العامة حين يقدمون الإرث الحضاري للأمة في قوالب دينية محضة، ومن هنا تنشأ حالة الانفصام بين الواقع وما هو متخيل.

«كم من مسلم حزين في هذا القرن الواحد والعشرين، والسبب ليس في الإسلام، ولكن في أهل الإسلام، الذين وقعوا حزانى، ضحية عجزهم عن مسايرة دينهم في بناء الإنسان، وتعمير الأرض، وعمل الدنيا المقترن بالعمل للآخرة. إن العقلية المرتَهَنة لماضيها، تعيش رافضة لحاضرها ومستقبلها، وتسقط في وحل الجهالة والشقاوة: