صلاح سالم

طالما اتسمت العلاقة بين العالمين: العربى الإسلامي، والغربى المسيحي، بطابع إشكالي، كونهما بالأساس حضارتين شقيقتين، اعتمد كل منهما، ولو بنسب مختلفة، على التراث المشترك للوحى والنبوة الإبراهيمية وعلى الفلسفة والعلوم اليونانيتين، وتغذيا على تراث الشرق الأدنى وأساطيره القديمة. وفى المقابل، كونهما الأكثر تواجها وتحاربا عبر التاريخ، فى سياق محاولة الهيمنة على البحر المتوسط، قلب العالم القديم، من خلال دول لا يزال بعضها حيا كالبرتغال، وإسبانيا، وهولندا، وفرنسا وانجلترا والولايات المتحدة، من جانب، وتركيا وإيران، والعراق، وسوريا ومصر من جانب آخر. أو عبر تشكيلات سياسية تحللت تاريخيا كالإمبراطوريات: المقدونية والرومانية المقدسة والبيزنطية، من جانب وقرطاجنة وفارس والخلافتين الأموية والعباسية ثم الإمبراطوريتين المغولية والعثمانية من جانب آخر، حتى لو كانت تلك المحاولات قد تمت باسم أفكار مختلفة شكلا عن الثنائيتين المحفزتين للصدام اليوم: شرق ـ غرب، وإسلام ـ مسيحية. 

تفسير تلك الإشكالية هو أن تلك المواجهات كانت نتاجا لشعور بالغيرة يحفزه شعور أعمق بالتشابه أكثر من الشعور بالاختلاف، فعلى عكس الديانة اليهودية المنغلقة، المؤسسة التفوق العرقى والخيرية المطلقة، تتسم المسيحية والإسلام بكونهما ديانتين إنسانيتين، تطرحان نفسيهما على البشرية كلها، وتنزعان إلى تبليغ رسالتيهما إلى العالم. كما أن هناك تشابها فى تجربة الريادة الحضارية لحقب مختلفة من التاريخ، بل فى رد الفعل النفسى من قبل كل طرف على ريادة الطرف الآخر، فالانقسام الحالى بين تيارات الوعى العربي: سلفية وحداثية، وما يصاحبه من اتهامات السلفيين للمحدثين بفقدان الأصالة وموالاة الغرب ومن ثم التهاون فى تجسيد الهوية النقية للأمة، إنما يشبه الانقسام الذى كان قائما بين تيارات الوعى الأوروبي، والاتهامات التى كان يطلقها الرجعيون، الأقل علما وثقافة وتذوقا للفنون، ضد النخب الأوروبية الأكثر وعيا وثقافة، خصوصا فى الأندلس، بمحاباة العرب والتفريط فى الهوية المسيحية، وكانت الكلمة الأكثر إفصاحا عن الاتهام هى «الاستعراب» والتى تكاد توازى اليوم كلمة «التغريب» فى قاموس الوعى السلفى العربي. 

بل إن ما يزخر به عالمنا العربى من تطرف دينى وإرهاب أصولى يكاد يشبه تماما تلك الأجواء التى مرت بها أوروبا إبان تجربة الإصلاح الدينى وهى بصدد الانتقال من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة، حيث كان عصر النهضة فالإصلاح الدينى الذى أوقع أوروبا فى أتون صراعات دامية بين الكنيسة الكاثوليكية العتيقة والكنائس البروتستانتية الوليدة، ثم داخل هذه الأخيرة نفسها بين الكنائس اللوثرية والكالفينية، وبينهما معا ضد الطائفتين الجنسينية والأنابتيستية على وجه الخصوص، ثم جماعات الهرطقة المتعددة. وهو الأمر الذى فجر صراعات سياسية بين الدول القومية الناشئة آنذاك، دارت خصوصا بين فرنسا كدولة صاعدة وبين الدويلات الألمانية، وأيضا السويسرية التى انقسمت بين الإصلاح الكالفينى والنفوذ الفرنسى فى (جنيف) وبين الإصلاح اللوثرى والنفوذ الألمانى فى قلب (زيورخ)، وهو المسار التاريخى الذى أفضى إلى حرب الثلاثين عاما، التى انتهت بصلح ومعاهدة وستفاليا وانبلاج الدولة القومية الحديثة. 

والواقع أن الانقسامات القديمة التى كانت فى العالم الغربى بالأمس، أو القائمة فى العالم العربى اليوم، لا يمكن تفسيرها على نحو تبسيطى بخيانة تيار فى هذه الثقافة أو تلك للتيار الآخر، فلم يكن المستعربون خائنين للهوية الأوروبية، ولا الحداثيون العرب خائنين للهوية العربية، بل يمكن تفسيرها على الأرجح بالتفاوت الجوهرى فى الذهن الإنساني، وفى قدرة البشر المختلفين على التكيف مع متغيرات العصور ومستجدات الأزمنة، فثمة أذهان منفتحة، قادرة على استقبال الإشارات المختلفة فى كل وقت ومن غير مكان، بل إنها تتطلع لهذا الاستقبال وترى فيه جسارة المغامرة وألق الاكتشاف ومتعة المقارنة، وممكنات التطور. وثمة فى المقابل أذهان منغلقة على ذاتها، تروق لها أجواء الكهف وطبيعتها المنكفئة، فيما تخشى من أجواء الفضاء المنسابة على سجيتها، والمفتوحة على العوالم المحيطة، ومن ثم فهى ترى فى القادم غريبا يمثل تهديدا بالضرورة، وليس جديدا يمثل إضافة محتملة، أى خطرا قد يفضى إلى الفناء أكثر منه رافدا قد يحقق الثراء. 

هذا الميل يمكن القول إنه فطرى على الصعيد الفردي، فكل إنسان يولد بذهنية مركبة من عاملى التفتح والانغلاق، أو المغامرة والمحافظة، ولكن بنسب جد مختلفة، فالشخصية المنفتحة، المندفعة نحو التغيير، إنما تنطوى على مكون محافظ يقوم ببعض الأدوار الدفاعية، لحفظ الذاكرة التى تمثل جوهر الشخصية، وتعمل على حفظ توازنها فى سياق المتغيرات، وهى تخوض فى شتى الدروب. وعلى العكس فإن الشخصية المحافظة، المنغلقة، الرافضة للتغيير، إنما تنطوى على بعض مقومات التجدد ولو كانت محدودة، وهى المكونات التى تسمح لها بالاستمرار على قيد الحياة، حيث الجمود الكامل يفضى على الموت البيولوجى وليس فقط الثقافي. هذا التفاوت على المستوى الفردى هو ما يجب أن تمارس الثقافة سلطتها فى مواجهته، فالثقافات الحية، إبان سطوعها، غالبا ما تؤثر إيجابيا فى الوعى الفردي، ومن ثم تعمل على تهذيبه وجره نحو الانفتاح، فيقل الحضور الجمعى لأرباب التيارات الرجعية، إلى حد يصبحون معه مجرد هامش على متن تيار عام يتسم بالتفتح وينزع إلى تحقيق التقدم. أما الثقافات الراكدة، التى لم تبلغ حد التحضر بعد، أو تلك التى مرت بفترة تحضر ثم تراجعت، فغالبا ما تدفع بالوعى الفردى فى الاتجاهات السلبية، فيستحيل الشخص المنفتح أصلا، تحت ضغوطها، أقل تفتحا. بينما يصير الشخص المنغلق أصلا أكثر انغلاقا، ويستحيل التفتح محض هامش نحيف على متن واسع من المحافظة الرجعية، وهو ما تعيشه الثقافة العربية اليوم، رغم تاريخها الرائق الذى كان. بل إن هذا التاريخ يكاد يكون عبئا على كاهلها اليوم، لأنه يمنحها حائطا للمبكى على ماضيها، ومبررات للغضب من حاضرها، وشعورا بالعار الحضارى الذى يجب ستره بسرعة، فإذا ما غابت القدرة على ستره أو غامت طرائقها، انفجرت هذه الثقافة من داخلها تطرفا وإرهابا على نحو ما نرى.