حياة الحويك عطية

 على شاشة فرنسا 24، ثلاثة شباب عرب أحدهم فلسطيني يسكن القدس القديمة، وأكاديمي «إسرائيلي»، يديرون نقاشاً حول الأقصى، الشباب متحمسون، صادقون، كثيرو المعلومات والحجج.

أما «الإسرائيلي» فلا يقول شيئاً إلا هذه اللازمة «نحن نريد إعادة الإسلام إلى حقيقته كدين موحد للديانات السماوية، وبناء عليه يمكنه الاعتراف بيهودية دولة «إسرائيل» والتعامل معها سلمياً على هذا الأساس. يمكنه السماح بزيارة جميع أتباع الأديان بما فيهم يهود «إسرائيل» إلى مكة والمدينة المنورة لأداء العمرة، ويسمح لليهود بالاستيطان في جميع أنحاء الشرق الأوسط»، يكررها كلما أعطي له الكلام وكأنه لا يسمع ما يقوله الثلاثة. رغم أن ما يقولونه يستفز ويستحق الرد. فهم تارة يوردون الحجج التاريخية المناقضة للرواية «الإسرائيلية»، وتارة يتحدث الشاب المقدسي عن واقع حياته بعبارات ساخنة: «انت تعيش محاصراً - يروي تفاصيل الحصار على حياة الناس - وتعيش مقموعاً - يروي كيف ترى أختك تُسحل وأباك يُهان وأخاك يُعتقل. لكن الجلمود «الإسرائيلي» لا يكترث، هو جاء إلى الشاشة مكلفاً بتسويق رسالة استراتيجية إن هي إلا مطالب «إسرائيل» الجديدة من الإسلام الجديد المطلوب إرساؤه في الشرق الأوسط. 
الفكرة ليست جديدة من حيث الدعوة إلى تهويد المنطقة بالاقتصاد والثقافة بدلاً من الحروب «الإسرائيلية». 
في عام 1974 - أي بعد حرب أكتوبر - جاء إلى المنطقة حاخام «إسرائيلي» يدعى المار بيرغر، وضجت وسائل الإعلام بأن الرجل رسول سلام معارض ل«إسرائيل». اجتمعنا به في بيروت وأصدرنا - باسم الطلاب القوميين الاجتماعيين - بيانا وزعناه بكثافة للتحذير من الخطاب الجديد. ما كان يطرحه الرجل أنه ضد الحروب. لماذا؟ لأن الحياة اليهودية غالية ولا يجوز التضحية بها إلا عندما تنعدم الوسائل الأخرى تماماً. هذه الوسائل الأخرى متاحة بحسب بيرغر، وهي تهويد المنطقة اقتصادياً وثقافياً، بما يعود بالخير على الجميع بحسب رأيه. 
كان هذا في السبعين، ويومها اعتبر الجميع أن لا قيمة لطرحه. لكن هذا ما تبناه شيمون بيريز حرفياً وبتفصيل أكثر في مشروعه للشرق الأوسط الكبير الجديد، الذي سبق الأمريكيين إلى طرحه. إدارة بوش نسخته. ملخص مشروع بيريز أن لدى العرب وشعوب الشرق الأوسط المواد الأولية واليد العاملة، ولدى الغرب وهذه الشعوب المواد الأولية واليد العاملة. وإذا ما التقت تصنع المعجزات. لمصلحة من؟ والحقيقة أن المصلحة لا تتحقق إلا لأرباب العمل، للعقول المدبرة والمخططة، للشركات المتعددة الجنسيات التي ستسمح بها «إسرائيل». صيغة عبودية أسوأ بكثير من الاحتلال العسكري. وأسوأ ما فيها أنها لن تجد من يعترض عليها بمقتضى القوانين الدولية وشرعة حقوق الإنسان. 
مرت عقود، وها نحن في ظل المعاهدات التي جعلت التهويد الاقتصادي يتسرب عبر التطبيع بسرعة أكثر مما توقع بيرغر وبيريز.
عقود. وبدا أن عملية التهويد الاقتصادي أسهل من عملية التهويد الثقافي. إذن فلا بد من البحث عن كسر هذا الحاجز الصعب. كيف؟ بتدمير وتحوير أسسه. أسسه هي أولاً ولدى كل الشعوب الخط الفكري القومي، بما يعنيه من خصوصية تؤسس للسيادة ولأية عملية تفاعل مع الآخر، كما تؤسس لأية عملية طمس من الآخر. وثانيا، لدى شعوب الشرق الأوسط عامة، الانتماء الديني الذي يصعب استئصاله من روحية وثقافة الشرقي، وهو يتداخل لدى العربي مع تعريفه القومي -الثقافة العربية الإسلامية- وهنا تبرز مشكلتان: الأولى أن هذه الثقافة متميزة بتعددية أديانها وأعراقها التي ذابت عبر القرون ضمنها. وهذا ما يتناقض مع الهدف المركزي «الإسرائيلي» يهودية الدولة. والثاني أن الإسلام باختلاف مذاهبه يشكل قوة هائلة تقف معادية ل«إسرائيل». 
إذن لا بد لأي مخطط بديهي أن يفكر بثلاث مراحل: القضاء على المشاريع القومية بل وحتى على الإحساس القومي. القضاء على التعددية وقبولها. وتحويل الإسلام من قوة معادية ل«إسرائيل» إلى قوة حليفة.
وعليه لم يشهد العالم العربي قوة قومية لم تضرب - بصرف النظر عن الأخطاء والعيوب التي شابتها من داخل- من ضرب الأحزاب والحركات القومية، وأحياناً واحدها بالآخر. إلى ضرب المشاريع الكبرى في الدول الثلاث المؤهلة لحمل مشروع قومي، مصر فالعراق فسوريا. 
يبقى الإسلام. جاء الحل السحري بتشجيع الاتجاهات الظلامية التكفيرية الإرهابية المتوحشة عقلاً وفعلاً. ودفعها إلى التصعيد بحيث يصبح الحديث عن إسلام جديد أمراً لا جدال فيه. لكن أي إسلام جديد؟ أهو ذلك الإنساني الحضاري المتفق مع روح العصر وحاجات الأمة؟ أم هو ذلك الذي يسير باسم مكافحة الإرهاب إلى شكل تهويدي مؤسرل يحقق فعلا عملية التهويد الثقافي التي تمهد لاستكمال التهويد الاقتصادي بعد أن تم تدمير الجيوش والدول؟