عادل درويش 

انشغل ذهني هذه الأسبوع بأعداد هذا العمود، وصورة عالَم السادة الرجال المحترمين. رأيت صورة الجنتلمان القدوة في المجتمع.
جيل خاض أهوال الحرب العالمية (ولا أقصد بريطانيا فحسب، بل بلداناً كالساحل الشمالي الأفريقي حيث كانت معركة الحلفاء في العلمين غرب الإسكندرية التي كانت نهاية البداية لتقدم جحافل النازية لتستدير عائدة نحو الهزيمة).
رجال محترمون لم يتغير سلوكهم وزيهم المتحضر طوال سنوات العرق والجهد والعطاء. رجال ينزفون ويبتسمون ولا يشتكون.
جيل على وشك الانقراض يبعد سنوات ضوئية عن أجيال جديدة مرفَّهة لا تكفُّ عن الشكوى، وتطلب إجازة مرضية بعد ثلاث عطسات.
قفز العنوان إلى ذهني وأنا أعد للكتابة عن أحد عمالقة مواليد عشرينات القرن الماضي، خاض الحرب العالمية الثانية مقاتلاً بحريّاً... عملاق على مستوى بريطانيا والعالم، أعلن خروجاً نصفيّاً على المعاش، لأنه سيتخلى فقط عن نصف ارتباطاته ونشاطاته التي تجاوزت 22 ألفاً، وسيظل ممارساً للنصف الآخر وهو في السادسة والتسعين.
إنه دوق أدنبره الأمير فيليب الذي سيظل مرافقاً للملكة إليزابيث الثانية في كل مهامها، أما تقاعده هذا الأسبوع، فكان فقط عن ارتباطاته المنفردة المستمرة لسبعين عاماً، من بينها ترؤسه وإشرافه على 670 جمعية ومؤسسة خيرية.
عندما تزوج الأميرة إليزابيث قبل سبعين عاماً أطلق إحدى نكاته الشهيرة، وهو دائم النكات التي أحياناً يسيء البعض فهمها أو يأخذها خارج السياق، قال بعد زواجه بالأميرة ابنة الملك: «ماذا أفعل الآن وقد أصبحتُ أميبا»؟ فقد كان الأمير فيليب ضابطاً في البحرية الملكية، وأبلى بلاءً حسناً في معارك البحر المتوسط أثناء الحرب العالمية الثانية، ليجد نفسه «أميبا»؛ خلية وحيدة طفيلية. من قبطان مدمرة إلى مرافق للتاج يسير خطوتين خلف زوجته (زوج الملكة دستوريّاً). كلف الملك زوج ابنته بتمثيل التاج في افتتاح جمعية خيرية لمشاة الأسطول عقب الحرب العالمية الثانية. ووجد في الأعمال الخيرية والعطاء دوراً جديداً، فقد أسس جمعيات خيرية لتحويل أراضٍ خربتها غارات النازي إلى ملاعب لأطفال المدارس، وبعدها لم يكفّ عن دعم الجمعيات الخيرية.
وبعكس الأمير فيليب الذي لا يزال معنا، فإن عملاقاً آخر من جيل الرجال المحترمين فارقنا، الخميس، وتشيع جنازته اليوم (الأحد) في القاهرة.
درس القانون، وبدأ صحافيّاً مراسلاً فكاتباً ومؤرخاً، كتب آلاف المقالات وعدة كتب بالفرنسية والعربية، آخر ثلاثة منها تُرجمت للإنجليزية.
لكن ربما أهم بصماته على عصره كانت ترؤسه في الثمانية والعشرين عاماً الأخيرة المؤسسة العالمية الفرنسية الطابع: «الاتحاد الدولي لحوار الثقافات والأديان من أجل السلام»... ولعل عنوان كتابه المترجم للإنجليزية «ثلاث نوافذ على السماء» يلخص رسالة ومهمة كرس لها عقوداً من عمره. فالكتاب إبراز لما يجمع الأديان الإبراهيمية الثلاثة من تشابه وتناسق وأهداف أكثر مما بينها من فوارق. الكتاب دشن في قصر لامبث، المقر الرسمي لمكتب كبير أساقفة كانتربري، أي بالنسبة للكنيسة الإنجليكية في مقام بابا الكنيسة القبطية أو شيخ الأزهر للمصريين.
الدكتور علي السمان الذي رافق شيخ الأزهر في حوارات أتباع الأديان إلى الفاتيكان والكنيسة الإنجليكية، كان ممثلاً دائماً للأزهر لدى المؤسسات الدينية العالمية في مهمة حوار أتباع الأديان، وكان مستشاراً لشيخ الأزهر السابق الدكتور سيد طنطاوي.
وإلى جانب صداقتنا الحميمة، فقد شاركتُ الدكتور السمان في كثير من الندوات والمناقشات العلمية في مجال حوارات أتباع الأديان والثقافات. واكتشفت أن الحوار ليس فقط بين أتباع الأديان السماوية الثلاثة، وإنما بين أتباع العشرات الأخرى غير الإبراهيمية من جميع قارات العالم السبع. كان قلبه الكبير متسِعاً للجميع، فضم حوار الثقافات إلى حوار الأديان، لأن تجربته الشخصية أيقظت لديه الوعي المبكر بأن الغالبية الساحقة من العالم خارج أميركا اللاتينية والبلدان العربية وآسيا الإسلامية، أو ما يزيد على ثلثي سكان الكرة الأرضية هم شعوب علمانية أو لا تتبع في حياتها تعاليم دينٍ بعينه، خصوصاً في معظم البلدان الغربية، فكانت فكرة توسيع رقعة الحوار لتشمل أصحاب الثقافات بجانب حوار أتباع الأديان. هذا الوعي الواقعي لا يدركه الكثيرون بين شعوب المنطقة العربية، فالأغلبية لا يتصورون إمكانية التواصل مع أقوام لا يتبعون الديانات السماوية. لكنه قضى نصف حياته في فرنسا، فبعد تخرجه في جامعة الإسكندرية عام 1953، حصل على دبلوم وماجستير من الجامعات الفرنسية ثم دكتوراه من فرنسا في القانون والعلوم السياسية في منتصف الستينات.
فجيل الرجال المحترمين تميز أيضاً بانفتاح ثقافته واتساع أفقه وكوزموبوليتيته. وبمعرفتي الوثيقة به لسنوات طويلة، لاحظتُ فيه تقبُّلَه للجميع، واندماجه في كل الثقافات حتى عندما يكون في المواقع القيادية. فرغم ارتباطه الوثيق بالأزهر كمستشار له ولشيخه، فلم أرَه يوماً، أو في مناسبة عامة أو خاصة، يفرض أو ينصح أحداً باتباع طريقة إسلامية على مأدبة أو في مظهر أو ممارسة، حتى وهو المضيف.
كان مراسلاً للصحف المصرية في باريس، ورئيساً لوكالة أنباء الشرق الأوسط لأربعة عشر عاماً ومستشاراً للرئيس الراحل أنور السادات، ومسؤولاً عن الصحافة الخارجية في رئاسة الجمهورية المصرية. قام بمهام عديدة ومراسلات شفهية بين القيادات المصرية وبلدان خارجية وزعماء ومؤسسات عالمية على مدى نصف قرن، وهو ما جعله، كمؤلف، مؤرخاً شاهداً على أحداث مثيرة في عصره، وجعل كتبه عن دوره في الجمهوريات المصرية الثلاث السابقة مرجعاً مهماً ومشوقاً لأحداث مهمة لأكثر من ستة عقود. تجربة أعطت جيل الرجال المحترمين بُعدَ نظر ورؤية لا تتمتع بها الأجيال الجديدة.
فقبل ثلاث سنوات، كاد الجيل الجديد من نشطاء التواصل الاجتماعي يتسببون في أزمة بين مصر والسعودية، وبتجربته الطويلة والخبرة في السياسة الدولية أدرك أن عرقلة أو تعثُّرَ محور القاهرة الرياض يهدد مصالح البلدين واستقرار المنطقة، فلعب الدكتور السمان دوراً محوريّاً بمهارة حوار الثقافات ساعد التيارات الوطنية على تغليب صوت العقل على العواطف غير الناضجة.
كان بالفعل «جنتلمان» من جيل آخِر الرجال المحترمين.
هناك قول معروف: إذا أردتَ أن تعرف شخصية الرجل فادرس شكل العالم يوم بلغ الرجل عامه الحادي والعشرين.
في عام الأمير فيليب الحادي والعشرين كانت بلاده تقف وحدها في مواجهة آلة حرب النازية الجبارة، وهو ورفاقه في سلاح المدمرات يدافعون عن الإنسانية ضد عدو يفوقهم عدَّة وعدداً. والراحل الدكتور علي السمان بلغ الحادية والعشرين والعالم يتغير بسرعة في مطلع الخمسينات، وإن كانت أحوال بلده مصر أفضل اقتصادياً من حال بريطانيا عام 1942. لكن القاسم المشترك بينهما أن قيم العالم ومثله العليا كان قدوتَها الرجالُ المحترمون.