باسم الجسر

 «الاشتراكات» في لغة علم الطب هي وصف لحالات مرضية متشعبة من العلة الأساسية ومولدة لعلل أخرى في جسم المريض... وليس أدل منها عبارة لوصف ما أصيب به العرب والمسلمون في بدايات هذا القرن الحادي والعشرين من انقسامات ونزاعات وحروب أهلية، وما نتج عنها من مئات ألوف الضحايا وملايين المشردين من ديارهم ومن تدمير مدن وقرى ومنازل.


بدأت هذه الكارثة مع ما سمي بالربيع العربي الذي توهم البعض بأنه فتح صفحة جديدة واعدة في تاريخ العالم العربي. وعلى الرغم من اعتراف كثيرين بأن هذه الهبات الشعبية الرافضة لواقع اقتصادي واجتماعي جائر كانت منتظرة، فإن رياح ذلك الربيع ما لبثت أن تحولت إلى غير ما كان منتظراً منها، أي إلى تقاتل طائفي ومذهبي وعرقي هنا، وإلى حروب أو شبه حروب أهلية، هناك. وتدريجياً راحت المكونات البشرية للشعوب العربية تتقاتل بدلاً من أن تتعايش بسلام ووئام، كما كان الحال بينها منذ مئات السنين، ومن ثم تستنجد بالدول الأجنبية لكي تحمي نفسها من نفسها... وما لبثت الأسباب المعلنة للنزاعات والتقاتل تتحول إلى «اشتراكات» أي إلى انبعاث واندلاع أسباب عدة أخرى للتنازع، تغرق في تفاعلها وتناقضاتها الدول الكبرى والإقليمية العربية والإسلامية.
وإنه لمشهد مريع هذا الذي يرتسم به واقعنا العربي اليوم. كأمة وكأوطان وكدول. فالقواعد العسكرية الأميركية والروسية والأوروبية والصينية والتركية باتت اليوم منتشرة من جيبوتي إلى الحدود العربية مع تركيا. وتدخل الطيران الحربي الأجنبي في المعارك الأرضية الدائرة في سوريا والعراق بات يشكل الحاسم الأكبر لها. ويعترف المتقاتلون والمتدخلون في القتال بأنهم لا يعرفون متى وكيف سينتهي القتال. وهل ستبقى الدول التي يجري فيها القتال على ما هي عليه من كيانات وطنية وحدود، أم أنها ستتقسم أو يتغير نظام الحكم فيها؟
بطبيعة الحال يمكن للولايات المتحدة وروسيا، أن تحسما القتال لو اتفقتا على شروط الحسم. ولكن كل شيء يدل على عكس ذلك، بل ربما دخل الصراع - أو الصراعات - الشرق أوسطية على جدول القضايا المختلف عليها بينهما. وهما على أبواب حرب باردة جديدة.
هناك بين الدول من يعتقد أن تمادي التقاتل العربي - العربي يناسبه ويخدم مصالحه. ولا سيما إسرائيل التي نجحت في إبعاد شرارات الحروب العربية - العربية عنها، بل نجحت في استخدام علاقاتها بواشنطن وموسكو لحماية حدودها مع سوريا.
إن الأمة العربية لم تكن يوماً ممزقة، ووحدة أوطانها متردية كما هي حالتها اليوم. وأحوالها بعد أن يتوقف القتال - باستثناء بعض دولها - سوف تكون أقرب إلى أحوال الدول الفاشلة منها إلى أي تصنيف آخر، وعودتها إلى ما كانت عليه يتطلب عقوداً إذا توقف القتال والتقاتل اليوم.
لقد دخلت البشرية عصراً جديداً هو عصر العولمة والتكنولوجيا الرقمية والتواصل الاجتماعي وارتياد الفضاء، وكل الدراسات الجدية عن مستقبل البشرية تؤكد على حتمية تغيير العلاقات بين الدول، وضرورة التعاون بينها لإنقاذ البشرية مما يهددها من أزمات وأخطار بيئية واقتصادية، لا تنازعها على أرض أو أسواق أو تقاتلها لفروقات دينية أو عرقية أو اقتصادية ضيقة. وأين... أين نحن فيما نحن عليه اليوم من تقاتل طائفي ومذهبي وعرقي، من هذا الطريق الذي باتت البشرية تستعد لسلوكه؟
هناك شبه إجماع على استحالة التوفيق بين مصالح وأهداف واستراتيجيات الدول الكبرى والإقليمية المتدخلة والدول والشعوب الضحية. بل على تحديد مكان طرف الخيط الذي يؤدي سحبه إلى فتح باب أو نافذة أمل لوقف التقاتل. ربما كان الحل - كما اقترح أحد المعلقين - هو «تفكيك» المحنة - في لغة علم الاجتماع الحديث - أي التفريق بين أسبابها العميقة وأسبابها الجديدة، بين التناقضات العميقة والتناقضات الظرفية. حتى إذا اتضحت كل معالم النزاعات وأسبابها بات على الراغبين جدياً في عودة السلام إلى المنطقة، الابتداء في اقتراح الحلول أو السعي لتطبيقها.
ولكن أين هو طرف هذا الخيط؟