بكر عويضة

 بدءاً، تجب المبادرة إلى التراجع عن بعض ما تضمنت هذه المساحة الأربعاء الماضي. أنْ يرجع الكاتب إلى ما سبق كتبَ، بغرض تدقيق نص نُشِر له من قبل، ثم في ضوء ما توفر من حقائق غابت عنه، أو غُيّبت، يعيد النظر فيما قال أو دوّن، بقريب الأمس أو بعيده، ليس بالأمر المُعيب، بل هو لصواب الحق أقرب. لو أعمل نفرٌ من أهل الفكر والثقافة، أو الإعلام والصحافة، هذا المبدأ، لربما تجنَّب عدد منهم توقفَ نبض أفكارهم عن التجدد، فتخشّب بالنتيجة خطابهم، وبالتالي تجَمّد زمانهم عند توقيت تجاوزه الزمن، وطال عليه الدهر. ولو قيل لبعض هؤلاء إن جمهورهم نفسه ملّ اجترارهم ما يقولون، فليأتوا بجديد حتى في سياق المزاعم ذاتها المتمسكين بها، فسوف يصرّون على أن ما يرون هو وحده عين الصواب.

أول ما أبادر للتراجع عنه فيما كتبت هنا الأسبوع الماضي، هو ظلم ألحقته بالأميرة ديانا. كان الأجدر أن أنتظر فأكتب بعدما أشاهد، بدل أن أكتفي بملخص صحيفة لمضمون تسعين دقيقة استغرقها برنامج وثائقي عن أميرة ويلز الراحلة. الحق أن ما عرضته «القناة 4» في بريطانيا مساء الأحد الماضي، يشكل قطعة من التاريخ راقية. لقد بذل معدو البرنامج جهداً جمع بين ما يخص ديانا كشخص في موقع خاص جداً، يمر بوضع بدا أسطوري الفرح في البداية، وانتهى مأساوي الخاتمة كما تراجيديا المسرح الإغريقي، وما يعني المجتمع البريطاني ككل، سواء لجهة تغيرات تاريخية عصفت به، كما في إضرابات عمال المناجم، ومظاهرات الاعتراض على قرارات اتخذتها مارغريت ثاتشر، ثم حرب جزر الفوكلاند. مزجُ أحداثٍ كبرى كهذه، مع مراحل زواج ديانا والأمير تشارلز، من أول المشوار حتى الوصول للافتراق، جرى عبر «كولاج» تلفزيوني أنيق، فأتت الخلاصة، بالفعل، راقية، بصرف النظر عن زوابع النقد، خصوصاً في الصحف المحافظة، سواء التي سبقت العرض، من منطلق يعترض على كشف الأميرة الراحلة لتفاصيل حميمية ليست تهم الناس وقد تلحق الضرر بولديها، أو التي قد تأتي لاحقاً.

الذين عاشوا ثمانينات القرن الماضي بهذا البلد، وعايشوا أحداثها، وبين أبرزها أزمة الأميرة الراحلة ومأساة مصرعها قبل عشرين عاماً، يستطيعون تذكّر انقسام المواقف بين موقف متفهّم لمعاناة ديانا، وآخر مخالف لها بلا أي استعداد للتراجع. أتذكّر الآن أنني كنت في المعسكر الثاني، وإنما بلا تشدد، إذ كنتُ أميل للرأي القائل إن حرمة البيوت أسرارها، ورغم التعاطف مع صدمة ديانا وأحزانها، فإن بعض تصرفاتها، وكذلك سلفتها سارة فيرغسون (زوجة الأمير أندرو السابقة)، لم تك بمستوى مكانتهما. ظل هذا الموقف مقنعاً لي، حتى بعدما شاهدت، زمنذاك، حلقة خاصة لبرنامج «بانوراما» على شاشة «بي بي سي» أجراها مارتن بشير مع ديانا وشرحت خلالها جوانب أزمة زواجها. بعد مشاهدة ما عرضت «القناة 4» مساء الأحد الماضي، لم أجد أي حرج في الخروج من كهف ذلك الموقف إزاء أميرة، بدا لي، وربما لمئات آلاف المشاهدين غيري، أن الحزن الذي استوطن عينيها، حتى إذ هي صامتة ليست تنبس بكلمة، كان كافياً لأن يعكس عمق أحزان لم تُردها، بل فُرضت عليها، فبدت كأنها أميرة مأساة إغريقية معاصرة، كما وصفها راوي البرنامج ذاته، وربما لهذا السبب تحديداً، ازداد تعلق قلوب الملايين حول الكوكب بها، خصوصاً بعد رحيلها.
من طبيعة الحياة وسننها ألا تخلو علاقات الناس من أزمات، داخل جدران البيوت وخارجها، وإلا لكانت مدينة أفلاطون الفاضلة ظهرت منذ أزمان بعيدة. لكن أحزان المرأة، إذا ابتُليت بظلم رجل لم يبادل حبها حباً يحترم، على الأقل، مشاعرها، قد تغدو قهراً يفتت تماسكها، وقد تتآكل داخلها حتى الرغبة في العيش، فإذا بها شمعة تذوي أمام ناظريها، لكنهم لا يرون، وربما لا يريدون، رؤية ذبولها.

في هذا السياق، يمكن فهم مضمون ما تفضلت به القارئة وفاء تعليقاً على مقال الأربعاء الماضي، وتضمن ما يلي: «لفتني اتهامك للأميرة الراحلة بالإساءة إلى أقرب الناس إليها عبر هتك ستر علاقتها الزوجية، أخبرك يا سيدي أنه أيما امرأة أصابتها لوثة كرامة مهدورة تنسى ذاتها، وتصبح من غير المكلفين في شرع الحب، لأنها من غير المميزين». نعم صحيح سيدتي. طوبى لكل امرأة أصابها ظلم الرجل في صميم عاطفتها، والعكس يصح أيضاً.