محمد خروب

قبل الإجابة على السؤال، حيث نعتقد ان الرئيس الكوري الشمالي ليس «مجنوناً» أو يتوفر على نقص في قدراته العقلية والنفسية، رغم كل ما تنطوي عليه الحملة الاعلامية الشرسة وغير المسبوقة منذ عقود طويلة، والتي تُشارك في «دوزنتها» اجهزة ووسائل إعلام عربية، بهدف شيطنة الرجل وبلاده، وتسويغ حملة الحصار وفرض العقوبات «الأقسى في التاريخ» على ما قالت مندوبة اسرائيل في الأمم المتحدة.. نيكي هالي، وإن كانت «رسمياً» مندوبة الولايات المتحدة في مجلس الأمن.

قبل الإجابة.. يجدر بالمرء كما تقضي الاصول ويفرِض المنطق التساؤل عمّن يوجه اتهاماً خطيراً كهذا؟ وأن يقف المرء على الاسباب التي تدعو رجلاً جاء الى موقعه الرفيع محمولاً على خطاب شعبوي خارج إطار المألوف الاميركي، حتى انه شخصياً وبعد سبعة أشهر على وصوله البيت الابيض، لم يُصدّق حتى الان انه اصبح رئيساً للولايات المتحدة، ناهيك عن تخبّط ادارته وارتباك قراراته وهبوط شعبيته وتصاعد احتمالات توسع الاضطرابات والمواجهات ذات الطابع العنصري المتجذر في الولايات المتحدة، منذ قارف «الآباء المؤسسون» جرائم الإبادة بحق السكان الاصليين في تلك البلاد الخصبة والغنية التي امتلكوها منذ آلاف السنين، وجاء المهاجرون الاوروبيون (إقرأ المستعمِرون البيض) ليس لإستيطان تلك البلاد، بل إبادة سكانها الاصليين وترويعهم والطمس على حضارة وثقافة الهنود الحمر، التي تحوّلت لاحقاً الى مجرد «فلكلور» وغالباً الى مادة لأفلام الكابوي الاميركي المنتصر على الهندي الأحمر الهمجي وغير الانساني والمتخلف وخصوصاً غير الجدير بالحياة والبقاء.

هذا هو «المسار» الذي أتخذته السياسة الاستعمارية الاميركية منذ ان برزت واشنطن بداية القرن العشرين وخصوصاً في منتصفه وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية واندلاع الحرب الباردة وسقوط الامبراطوريتين الاستعماريتين الاسوأ البريطانية والفرنسية بعد العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956، حيث تحوّلت الى «شرطي العالم» متكئة على قوتها العسكرية الهائلة واقتصادها القوي والتحالفات التي اقامتها بالضغط والتهديد والانقلابات والغزو العسكري والعقوبات الاقتصادية واشاعة الفوضى في البلاد التي لا تتماشى مع سياسات الهيمنة والاستعلاء، التي تواظِب واشنطن التعامل بها مع معظم دول العالم، فضلاً عن تمويل وتدريب ورعاية الثورات المضادة والملونة وعصابات القتل والتهريب والإتّجار بالبشر، لتقويض الانظمة التي ترغب شعوبها في الاستقلال وعدم الوقوع في براثن السياسة الاميركية وادواتها التخريبية مثل الصندوق والبنك الدوليين.

عودة الى كوريا؟

كيم جون أون ليس مجنوناً بالقطع، رغم كل ما يمكن ان يوجه من انتقادات لنظام حكمه، هذا النظام الذي قدّم الكثير لشعبه لكن التعتيم الاعلامي وفيض الكذب الذي تحفل به وسائل الاعلام الامبريالية؟, وما يتم اختلاقه من اخبار مفبركة عن المجاعة والقتل واليد الحديدية وغيرها من التوصيفات التي كانت سائدة – وما تزال – إبان الحرب الباردة, وخصوصاً ضد الاتحاد السوفياتي ومنظومة الدول الاشتراكية، والتي تردّدها وسائل الاعلام العربية بغوغائية وحماسة، هي التي تجعل من كوريا الشمالية نظاماً ورئيساً «شيطاناً» وميداناً مظلماً، تسويغاً لارتكابات الغرب الاستعماري ضد هذه الدولة التي استطاعت خلال ستة عقود ان تصبح دولة نووية يخشى المستعمِرون مهاجمتها ولا يتوقفون عن التآمر لوأد برنامجيها النووي والصاروخي تحت طائلة العقوبات والنبذ والحصار الذي لا ينتهي.

صحيح ان امتلاك السلاح النووي في عصرنا ليس غاية لدى كثيرين نظراً لكلفته الباهظة وخطورته على الأمن والسلم الدوليين، فضلاً عن أن ما يُصرَف عليه من اموال، كفيل برفع مستوى معيشة بل رفاهية شعوب اي دولة ذات برنامج نووي طموح، لكن ماذا تفعل دولة مثل كوريا الشمالية لم تغادِر الجيوش الاميركية حدودها منذ انتهاء الحرب الكورية قبل نصف قرن، وتواصل الاساطيل الاميركية التحرش بها ولا تتوقف التدريبات العسكرية المشتركة مع كوريا الجنوبية واليابان في المياه الدولية المحاذية لمياهها الاقليمية، كذلك في نصب منظومة صواريخ THAAD في شطرها الجنوبي والتهديدات الاميركية التي لا تتوقف، باجتياحها وسحقها وغيرها من المصطلحات الاستعمارية التي تحفل بها قواميس المستعمِرين.

ليس سهلاً والحال هذه، ورغم تبجح ترمب بأن بيونغ يانغ ستواجه «النار والغضب» إذا ما هاجمت جزيرة غوام الاميركية (وهي بالمناسبة لن تهاجمها) ان تصف كوريا الشمالية الرئيس الاميركي بانه «فاقد للإدراك»، إذ أن اللغة الهابطة التي وصف بها ترمب، كيم جونغ أون بانه «مجنون يمتلك قدرات نووية»، تستدعي وبالضرورة وصفاً يتناسب مع ما «فاه» به رئيس يُشكِّك «اللصيقون» به، بقدراته الرئاسية والمعرِفية ويُدللون على ذلك بما أتخذه من قرارات وما صدر عنه من تصريحات، كشفت – ضمن أمور اخرى – انه اكثر الرؤساء الاميركيين جهلاً وتدنياً معرفياً، مقارنة حتى بمن وصف ذات يوم بانه «أجْهَلُ» رئيس سكن البيت الابيض.. جورج دبليو بوش.

في السطر الاخير.. تدرك واشنطن ان الحرب الكلامية يمكن ان تأخذ الأمور الى مزيد من التدهور وفقدان السيطرة، ولهذا بدأ مسؤولون في ادارة ترمب يتحدثون عن بدائل «دبلوماسية» لمنع الانزلاق الى حرب، تحذّر عواصم القرار الدولي وفي مقدمتها موسكو وبيجين وخصوصاً واشنطن بأنها ستكون كارثية، ولهذا كانت بيجين واضحة عندما اعلنت انها «ستدافِع» عن كوريا الشمالية في حال شن الاميركيون الحرب عليها.

هذا.. ما كبح الاندفاعة الاميركية وفرمل أيضاً التصعيد الكوري الشمالي، إذ أن شرط الدفاع الصيني عن بيونغ يانغ هو تعرّضها لعدوان اميركي، ويبدو ان المتخندقين على جانبي المِتراس قد فهموا «المضمون الصيني».. كما يجب ان يُفهَم.