القصيبي.. الحجاز ونجد تشهدان على تشبثه بتراب الوطن في عز أزماته

أحمد الديحاني من المدينة المنورة

كان وقع رحيله كوقع صخرة كبيرة تهوي في بركة هادئة، بهدوء تختفي الصخرة تحت سطح الماء، وبذات القدر من الهدوء قدر من العنفوان يظهر على السطح بمياه كثيرة منسكبة على حواف البركة وجوانبها الأربعة، هكذا هو رحيل الكبار، وأصحاب التنوع في العطاء والإبداع، ربما يمر هادئا في حينه لكنه لا يلبث أن يلمس أثر فقدهم في جوانب متعددة من مناح الحياة.
غازي القصيبي الشاعر والأديب والدبلوماسي والوزير، الذي رحل عن عالمنا في مثل هذا الشهر من عام 2010، وتحديدا في 5 رمضان 1431 هـ الموافق 15 أغسطس، بعد معاناة طويلة مع المرض، هو صاحب قصة عمرها سبعون عاما، ملأت الدنيا علما وعملا وإبداعا سمحت له أن يبقى كما بقي المبدعون من قبل في صفحات التاريخ المضيئة.


فنم قرير العين يا ابن الأحساء فمن يشيعونك بحبهم ودعائهم أضعاف أضعاف من ناصبوك الخصام، ويوما تلو الآخر يتحول الخصوم إلى متفهمين لمواقف سبقهم إلى فهمها الراحل الكبير ابن المجتمع الجميل المسالم الملتف على واحة وادعة اسمها الأحساء. 


كانت الوداعة والحياة الهادئة هي نصف عمر القصة السبعينية تخللتها لحظات سجال أدبي وصخب ثقافي لشاب شاعر مثقف تنقل بين عواصم عربية وغربية وجمع الأحلى من رحيقها، غير أن النصف الآخر من القصة بعد سني الوزارات الثقيلة ومراحل المنعطفات الشديدة في غمرة رحلة سياسية وثقافية كان بطلها شاعر ووزير صار سفير في عز أزمات خطيرة كادت تعصف بثقافة جيل بأسره بدءا بحادثة جهيمان وما أفرزت من حراك صحوي جثم بثقله على كل حراك فني ثم أزمة احتلال العراق للكويت، وما أحدثته من إرباك للمشهد السياسي في المنطقة ليخرج القصيبي من الأزمتين بمبادئ لا تتغير.


تغيرت سفارة القصيبي من البحرين إلى بريطانيا لكن قلبه الذي أحب الحياة في هاتين المملكتين كان يخفق أكثر تجاه المملكة الأم والوطن فيشعر بأوجاعها وينافح عن قضاياها، وحين كانت أبواق النظام البعثي في العراق تسمي السعودية بنجد والحجاز إمعانا في الإيذاء للرياض خرج صوت القصيبي يصدح من بعيد : "نعم نحن الحجاز ونحن نجد .. هنا مجد لنا وهناك مجد .. ونحن جزيرة العرب افتداها ويفديها غطارفة وأسد".


معارك كثيرة في فضاء الثقافة خاضها السفير الصاعد بأسهم المملكة في بورصة ثقافية لم تكن تؤمن بأحقية أن تنافسها ثقافة قادمة من أعماق شبه الجزيرة، لكن غازي المتحدث البارع والمثقف الثري بمكنوزاته خلق حآلة احترام لمثقفي هذه الأرض في كل أصقاع العالم.
هدأت محركات الصدام الثقافي عند غازي القصيبي حين انشغل من جديد بوزارات خدمية بعد أن ملأ الدنيا ضجيجا وإبداعا لم يستسغه الذين توجسوا من حالة أكثر انفتاحا للتغيير يدعو لها القصيبي، لكن الرجل الذي صار في خريف العمر في آخر قصته السبعينية يختار الرحيل معتذرا لكل من أحاطوا به عبر قصيدة سيخلدها التاريخ بدأها بمخاطبة عمره الماضي ثم اختمها بمغازلة صادقة للوطن قبل أن يتوجها بطلب الرحمة والعفو من خالق غفار.