ناصر الحزيمي

قد يظن البعض اننا قد شططنا في هذا العنوان , وإلا فما علاقة الحداثة بالتطرف عموما؟ وتطرف (داعش) على وجه الخصوص! وحتى نكون واضحين في أسباب اختيارنا لهذا العنوان يجب أن نتذكر طبيعة الجماعات القتالية في أفغانستان، وكيف كانت تعيش حياة الزهد والشظف والقبول بالمعيشة الأقل. لقد كان الراديكاليون في أفغانستان محدودي المتطلبات؛ اذ كان يكفيهم فنجان من الشاي مع نصف خبزة تميس. وكانت امكانياتهم الإعلامية محدودة جداً، وكانت ثقافتهم ثقافة فقيرة وأولية. لم يكونوا متطلبين وكان جل همهم قتالهم للروس السوفييت, هذا ما كانوا عليه. ولو تأملت مطبوعاتهم لوجدتها محدودة المادة العلمية, وكان أقصى ما وصلوا إليه من ترويج لفكرهم هي اشرطة الفيديو، التي كانوا يروجونها بعد كل عملية. ولعل الوقت الذي ظهروا فيه في الثمانينات هو السبب في محدودية الترويج لأفكارهم عبر وسائل الإعلام. أما من حيث الأفكار فقد كانوا يراعون المرجعية العلمية السائدة والمعروفة في بطون الكتب؛ لهذا تجد أنهم في تلك الفترة كانوا يؤصلون بطريقتهم الخاصة، وبأفهامهم المحدودة كل خطوة يحاولون أن يخطونها في طريق القتال، فظهرت لهم فتاوى ورسائل كثيرة جداً يغلب عليها الانتصار للفكرة الجوهرية من سلوكهم القتالي, وحقيقة كانوا مكثرين للغاية في اصداراتهم على الرغم من عموم سذاجتها. حتى أن بعض من لم يعرف بالعلم صدر له مجموعة من الرسائل مثل: (أسامة بن لادن) و(أيمن الظواهري) و(يوسف العييري) وغيرهم جمع. لقد كان الخطاب الشرعي يستعمل كخطاب اقناع بسلوك الطريق الراديكالي للإسلام.

أما (داعش) فقد وجدت في الزمن الذي انتشرت فيه شبكة الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، وقد نفهم مثل هذا التحول نحو التقنيات واستغلالها استغلالاً فعالاً وذلك بسبب وفرتها، وانتشارها..

وعلى كثرة هذه الرسائل لا يوجد فيها ما يعزز فكرة التسامح والعدل الذي عرف بهما الإسلام. وكذلك نجد نفس السلوك عند بعض الراديكاليين الذين قاتلوا في العراق , والشيشان, والبوسنة والهرسك, (فأبو مصعب الزرقاوي) مثلا الذي لم يعرف عنه بتاتاً طلب للعلم بل كان تبعاً خالصاً (لأبي محمد المقدسي), وقد وجد من نسب له مجموعة من الرسائل واطلق عليه لفظ شيخ ؛ ولعل هذه الرسائل المنسوبة له هي خطط صوتية حولت إلى مادة مقروءة وهذا أقصى ما يستطيعه هذا الرجل.

أما (داعش) فقد وجدت في الزمن الذي انتشرت فيه شبكة الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي, وقد نفهم مثل هذا التحول نحو التقنيات واستغلالها استغلالاً فعالاً وذلك بسبب وفرتها، وانتشارها. إلا أننا ما نريد أن نتحدث عنه هنا هو السلوك المحدث على الجهاديين حيث ذكر مجموعة ممن أورد أخبار وتحليلات الجهاد في اوروبا مثلاً, أن الغالب على الشباب المتحولين للراديكالية لم يكونوا يعرفون بأي مظهر من مظاهر التدين. فبعض من نفذ التفجيرات والقتل كان يرتاد الحانات قبل قيامه بعمليات الإرهاب, وكان أغلبهم من أصحاب السوابق مثل: تعاطي المخدرات, أو السرقة بالإكراه, أو السطو, أو النصب والاحتيال. بل إن بعضهم قد تعرف على الخط الراديكالي على طريق احتجاجه في السجن. ولعل مجلة (دابق) الصادرة باللغة الانجليزية والموجهة الى راديكاليي اوروبا خير مثال على التعبير عن متطلبات الشباب الحداثي الاوربي الساعي نحو الراديكالية العمياء. وهذا الشباب قد تجاوز عن كثير من سلوكياته المخالفة للمعهود من سلوك المتطرفين. حيث نجد بعضهم يرتدون بناطيل ويقصون شعورهم على أحدث التقليعات, كما إنهم يستمعون إلى موسيقى الراب. إن هذا الوصف لا نعني به مراحل مبكرة قبل التزامهم بالخط الراديكالي، وإنما هذا ما عليه إرهابيو اوروبا. لقد قالت (داعش) إننا لن نشغل أنفسنا بالتأصيل العلمي لأن ما نقوم به هو الحق وهو الأصل الذي لا يحتاج الى دليل ولا الى تأصيل ! حتى أننا نجد أن (داعش) لم تدخل سجالاً كما حدث مع (القاعدة) إلا في مرحلة إعلانها عن قيام الدولة ومبايعة الخليفة, أما غير ذلك فلم تأبه له ولم تطرحه كإشكالية. ومن المعروف أن داعش قد تمردت على جميع كتب التراث واستثنت من ذلك بعض النصوص المنقولة عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعصر الخلفاء الراشدين. أما التوجيهات والتنظيرات والتجارب التي وردت في تراثنا الإسلامي فلا يأبهون بها. وهذا يذكرنا كيف أن (شكري مصطفى) كان يكفر من بعد القرن الرابع حتى عصره ، وكان يتوقف في من هم قبل ذلك فنبذ كتب التراث عموماً وعلى رأسها التفاسير والشروحات واللغويات, واقتصر على ظاهر النص القرآني وبعض الاحاديث . إن هذا السلوك عند جماعة شكري مصطفى (التكفير والهجرة) وجماعة أبوبكر البغدادي (داعش) في نبذ تراث الأمة الذي بني على تراكمات معرفية وتجارب إنسانية يسهل عند هاتين الفئتين المارقتين الخروج على تجارب الأمة وتاريخها, فهم لا يتحاكمون إلا لمرجعية محدودة جداً مما يفتح لهم أبواب التقول على الإسلام وتراثه. إلا إن الأسباب التي دعت شكري مصطفى إلى مثل هذا المسلك غير الأسباب التي دعت (داعش) لهذه السلوكيات . فشكري مصطفى نتاج لسجون عبدالناصر وما كان يحدث فيها, وما كان يشاهده من المجتمعات التي كان يدينها ويتهمها بالكفر والمروق . فشكري مصطفى إنما كان ينتقم من مجتمعه عن طريق إدانته لمجمل التاريخ والتراث . أما جماعة (داعش ) والاوروبيون منهم على وجه الخصوص, إنما كانوا ينتقمون من التراث الأبوي السلطوي التاريخي الذي كانوا يعايشونه , وهم نتاج العولمة والحداثة الاوروبية. فجميعهم (داعش, والتكفير والهجرة) إنما هم يتمردون في حقيقتهم على السلطة الأبوية وحسبما يفهم كل واحد منهم هذه السلطة .