عزت صافي 

كان لا بدّ للبنان من نصيب في الحرب التي تقترب من سنتها السابعة، وكانت الشهادة من نصيب كوكبة الجنود التسعة الذين كتبوا مسبقاً وثيقة النصر على «الدواعش» قبل أن تهوي أجسادهم في خندق الغدر.

ويوم خرجت تلك الكوكبة من أكفانها الترابية الى النور على خط النار بعد نحو ثلاث سنوات من الغياب في المجهول كان موكب عصابات «داعش» قد عبر الحدود السورية من دون حراسة، ولم يكن ينقصه سوى مراسم وداع في مكان، ومراسم استقبال في مكان آخر.

كان المشهد «تاريخياً»... موكب جرار من قتلة وسفاحين في ذمتهم دماء وأرواح مئات الألوف من الشهداء والضحايا في سورية والعراق، وفي لبنان ودول أخرى، مضى آمناً محصّناً بدروع من نساء وأطفال ومرضى، وجرحى، ومعوقين، وأسرى، وسبايا.

وكان المشهد لا مثيل له في تاريخ الحروب القبلية، أو في حروب العصابات، فيما قواعد التحالف الدولي البرية والبحرية والجوية تواكب مسيرة القوافل وكأنها أمام مشهد تمثيلي مركّب في فيلم افتراضي، أو كأن المشهد عينه كان نتيجة هدنة بين دولتين أو أكثر، في حين أن الدول المراقبة شريكة في الحرب الدائرة، ثم إنها غير ملزمة بالهدنة، لكنها التزمت بها كما لو أن هذه الدول بعض من تلك القبائل المتحاربة والمتصالحة، وهذه تشكل طعنة تاريخية في هيبة المجتمع الدولي (الديموقراطي) وطعنة في الوجدان الإنساني والمدني الذي تمثله هيئة الأمم المتحدة وأمينها العام وممثليه في مؤتمر جنيف الذي تحوّل مجمّعاً للنقاهة والتسلية.

نصيب اللبنانيين من هذه الحرب لا يزال محاصراً ضمن حدود لا تزال مضبوطة بإحكام العقل. وفي هذا الوقت عبرَ لبنان بوابة التجديد لقوات الطوارئ الدولية في الجنوب، على خط الفصل مع العدو الإسرائيلي. لكن نص التجديد هذه المرة تضمن محاذير لا تستطيع الدولة اللبنانية الاستخفاف بها خلال السنة المقبلة المحددة بدءاً بتاريخ الأول من شهر أيلول (سبتمبر) الجاري. ولم تمضِ أيام قليلة حتى أعلنت إسرائيل البدء بمناورات «غير مسبوقة» لمدة عشرة أيام استعداداً لمواجهة هجوم افتراضي من الشمال (جنوب لبنان).

فخلال السنوات الست الماضية استطاعت الدولة اللبنانية التمركز، أو «التموضع»، عند حد فاصل بينها وبين الوجود العسكري الإيراني في الأراضي السورية من جهة، والدور العسكري لـ «حزب الله» اللبناني في الأراضي السورية من جهة أخرى. والواقع أن الدولة اللبنانية لا تستطيع أن تفعل أكثر من الحرص على استمرار هذا الوضع ضمن ضوابطه الداخلية والإقليمية والدولية بانتظار «تظهير» صورة المنطقة العربية، بدءاً من سورية، خلال السنوات المقبلة التي قد تتجاوز عقداً من الزمن قبل التنبؤ بأي سورية ستكون في المستقبل القريب، أو البعيد، وأي عراق سيكون، وأي يمن، وأي ليبيا؟!

حتى الآن لا يزال لبنان خارج ظلال علامات الاستفهام الكبيرة التي ترتسم في المنطقة بعيداً من الغوص في تحليل التقارير التي تتضمن رؤية إسرائيل من خلال دورها الفاعل ضمن شبكة علاقاتها الناشطة مع إيران، وتركيا، وروسيا، وصولاً الى الصين، بقطع النظر عن دورها ومكانتها في الإدارة الأميركية الجديدة.

ربما كان الخوف على لبنان متأتياً من «فائض القوى» خارج الدولة، أو من خطأ، أو خلل، في استعمال هذه القوى. لذلك تتجه الأنظار اللبنانية وأنظار الدول الصديقة الى أحكام اتفاقية الهدنة بين لبنان والعدو الإسرائيلي بوجب القرار الدولي الرقم 1701 الذي على أساسه، بنى «حزب الله» استراتيجية قاعدتها «وإن عدتم عدنا».

بالتأكيد لدى الجيش اللبناني استراتيجيته، وخططه، وقدراته، وقراره، وهذه الأمور وسواها تبقى في خزنة أسراره المؤتمن عليها، بل هي في صلب عقيدته الوطنية منذ تأسيسه في مطلع فجر الاستقلال على يد قائده الأول الرئيس الجنرال فؤاد شهاب. وكم عانى الصحافيون اللبنانيون في ذلك الزمن من أحكام القانون العسكري. إذ «ليس كل ما يُعلم من شؤون الجيش يُقال أو ينشر». ولذلك كان ممنوعاً، مثلاً، نشر صورة شاحنة للجيش إذا انزلقت ونزلت في قناة، أو إذا اصطدمت بسيارة. وكان نشر أي خبر أو صورة لحاجز طارئ للجيش، أو صورة موقع عسكري في أي مكان، خصوصاً في منطقة الجنوب، ممنوعاً. وحدها شعبة المعلومات كانت تزود الصحافة بالمعلومات والصور التي يجوز نشرها.

وفي ذاكرة الصحافيين اللبنانيين القدامى وقوفهم ذات يوم خلال السبعينات من القرن الماضي أمام المحكمة العسكرية بجرم نشر خبر من بضعة أسطر عن صفقة صواريخ عقدتها وزارة الدفاع اللبنانية مع جمهورية زائير الأفريقية. خلاصة الخبر المنشور نقلاً عن وكالة الصحافة الفرنسية أن «زائير» باعت لبنان دفعة من صواريخ «كروتال» بعد موافقة الدولة الفرنسية المصنّعة. هذا الخبر اعتبرته الدائرة العسكرية المختصة في وزارة الدفاع اللبنانية مخالفاً للقانون العسكري، ويقع تحت بند «إفشاء سر عسكري»، ويُعاقب عليه القانون.

جميع الصحف اللبنانية اليومية حينذاك، وكان عددها يزيد على عشرين، طاولتها الدعوى، وحضر رؤساء تحريرها والمديرون المسؤولون أمام المحكمة العسكرية، وكان في المقدمة عميد دار «النهار» غسان تويني الذي حضر بصفته رئيس التحرير نيابة عن المدير المسؤول، وجميعهم كانوا متهمين «بإفشاء سر عسكري»: وقد ضاق بهم قفص الاتهام، وجميعهم صرحوا أمام المحكمة بأنهم يتحملون المسؤولية، وكانت إفاداتهم مختصرة وموحدة. ولأن المحكمة العسكرية منعقدة بدرجة استئناف رُفعت الجلسة للتشاور وإصدار الحكم. وفي هذه الحال كان على الصحافيين المتهمين أن يظلوا في القفص بانتظار إعلان الحكم، وكانوا مطمئنين الى أن التهمة ساقطة. ولم تطل خلوة هيئة المحكمة فعاد رئيسها والأعضاء الى القوس، وعندما نظر الرئيس المقدم جميل حسامي الى وجوه الصحافيين ورآهم يبتسمون رفع ملف الدعوى الذي في يده ليخفي إبتسامته، ثم نطق بالحكم: الحبس ستة أشهر للصحافيين جميعاً... ثم فوراً انسحب رئيس المحكمة والقضاة الى الداخل.

كان ذلك الحكم صادماً، وكان للصحافيين الحق بالتمييز بعد سوقهم الى السجن، لكن غسان تويني رفع صوته معلناً أنه لن يقبل الحكم، وأنه لن يلجأ الى التمييز، وسيدخل السجن، فارتفعت أصوات الزملاء معلنين الإلتزام بقرار الزميل الكبير. وحدثت ضجة في قاعة المحكمة العسكرية وصلت أصداؤها الى القصر الجمهوري حيث تبلغ الرئيس سليمان فرنجية التفاصيل، فطلب من المستشار القانوني في الرئاسة التوجه فوراً الى المحكمة العسكرية لتسوية المشكلة بالطرق القانونية. وفي تلك الأثناء كان محامي «دار النهار» يجمع تواقيع الصحافيين على تكليفه تمييز الحكم، مع الإصرار على البقاء في القفص الى حين تبلغ المحكمة طلب التمييز وقبوله، ثم عقد جلسة لإصدار الحكم... وقد تطلبت الإجراءات القانونية نحو ساعتين حتى انعقدت محكمة التمييز وأصدرت حكمها على الصحافيين بالبراءة.

تُستعاد هذه الوقائع من زمن لم يكن فيه لبنان مثالياً، لكن كان لكل مرجع مقام وحدود.

ومن ذلك الزمن تُستعاد المبادرات المتواصلة لحل الأزمة اللبنانية التي كانت في أساس الاستقلال. وهي أزمة سياسية، داخلية، وعربية، وخارجية. فمنذ مؤتمر «بيت الدين» في عهد الرئيس فرنجية، الى مؤتمرات بعبدا في عهود الرؤساء الياس سركيس والرئيس أمين الجميل، الى مؤتمر جنيف، الى مبنى البرلمان، ثم الى قصر منصور، ومن فندق الى فندق، وصولاً الى خيمة في ميدان سباق الخيل، كانت الأزمة عينها تنتقل حتى مؤتمر الطائف حيث وُلد الاتفاق الذي وضع خطاً فاصلاً وتاريخاً بين ما مضى وما يجب أن يكون.

أقطاب ورؤساء كتل ونواب ومراجع سياسية، واقتصادية وخبراء، ومثقفون، وأكاديميون، وقادة عسكريون متقاعدون، تعاونوا على تحقيق الحلم المشترك، وجميعهم اتفقوا على قاعدة لحكم برلماني، ديموقراطي، ينبثق من انتخابات نيابية.

والواقع، سابقاً، وحالياً، ومستقبلاً، أن اللبنانيين، على إختلاف سياستهم الداخلية، والخارجية، مدركون أن وطنهم محكوم بالأعداد والاستعداد الدائم في مواجهة إسرائيل.

وما النصر الذي تحقق في حرب التحرير عام 2000 وما بعده، إلا نتيجة الاستناد الى جدار الجيش وجاهزيته الدائمة لأداء الواجب، ومن خلفه كتل شعبية معبأة ومهيأة لتلبية النداء.

لكن التطورات التي تعاقبت في الجوار السوري خلال السنوات الخمس الماضية حتى اليوم وضعت لبنان أمام ما يمكن وصفه بأنه «فائض قوى»، وهذا واقع حال يعجز الوطن المحدود المساحة والإمكانات عن تحمله، ويخشى مضاعفاته، ولا يفيد القول إن «فائض القوى» هذا هو الى جانب لبنان، وليس عليه.

وفي هذا الوقت يتذكر اللبنانيون صوت «العميد» المدني الراحل ريمون إده الملقب «ضمير لبنان» الذي أمضى النصف الثاني من عمره في منفاه الاختياري (باريس) حيث كان، وحتى آخر دقيقة من حياته، منادياً وداعياً الى تمركز القوات الدولية المعتمرة «القبعات الزرق» على الخط الأحمر الفاصل بين حدود لبنان التاريخية وحدود فلسطين المحتلة، على أن تكون هذه القوى شاهدة، ومراقبة، وحامية، بضمانات دولية، في مواجهة أي عدوان إسرائيلي.