عادل يازجي 

لندع تنظيم «داعش» ومسرحية الحرب عليه جانباً، وانتقاله بالحافلات السياحية احتراماً لما قدمه من خدمات إسوة بشقيقه اللدود تنظيم «النصرة»، والخلاف الدولي حول المكان اللائق بهما فوق الأرض وليس تحتها، المهم انه لم يعد مطلوباً منهما ولا متاحاً لهما تعطيلُ التوجُّهِ للعمل السياسي في سورية، بعد أن حطت الحرب أوزارها، ليس بين النظام بفصائله المساندة والمعارضة بفصائلها المقاتلة، بل بين الدول المتحاربة بالطرفين فوق الأرض السورية، وقد لا يرضي ذلك طرفي التقاتل لاختلاف الأهداف، ما يوحي باحتمالات التمرد الذي تضيق منافذه. وفلسفة وقف التصعيد التي تطورت الى وقف الاقتتال هي القرار السياسي للمتحاربين الأصلاء، وأوكل التوقيع عليه في آستانة الى الفصائل المقاتلة.

المشهد السياسي لحل الأزمة السورية لا يظهر فيه قرار الأمم المتحدة 2254، ولا سلات مؤتمرات جنيف، لا سيما سلة المرحلة الانتقالية التي يعتقد المتشبثون بها (الهيئة العليا) للمفاوضات/ أن الروس سيسربون بعضاً من ملامحها الانتقالية لذرِّ الرماد في العيون. اما الوضع القتالي فعلى مشارف المحطة الأخيرة، وقطار الواقعية السياسية انطلق الى محطاته الاولى في الادارات الذاتية، لاستثمارها في المحطة السياسية الأخيرة (الدولة المركزية)، وهناك خبراء وسياسيون وأمنيون يعملون على إزالة حقول الألغام من هذه المحطة، ومن الطرق المؤدية اليها، بدءاً من ألغام الوحدة الوطنية، وانتهاء بألغام المرحلة الانتقالية، وعدا ذلك فالديبلوماسية الروسية قادرة بمفردها على إزالة صواعق التفجير بالترغيب والترهيب، وواشنطن رضيت بقواعدها العسكرية في الشمال والجنوب والشرق، وتنام ملء جفونها عن هذه الشوارد السياسية التي يختلف فيها الشركاء روسيا وإيران وتركيا، ويختصم فيها حلفاؤهم، وربما مجدداً يقتتلون؟

ثمرة العمل العسكري السياسي كلما أينعت وحان قطافها، يهلل الجميع لها، ويتغافلون عن جنْيِها عمداً، أو خوفاً، أو سهواً، أو جهلاً بنضجها فتذبل، وتصبح لا طعم لها ولا رائحة، ويعاد العمل على إثمارها من جديد، وهكذا. إنها صخرة سيزيف الأممية السورية، متى تُحال الى مبعوثها دي ميستورا يدحرجها متفائلاً، ويعيدها الى المربع الأول؟

المشهد السياسي يوحي ببدء موسم القطاف، سلة النظام هي الوحدة الوطنية، ومنصات موسكو والقاهرة وآستانة وحميميم تراهن على الحنكة الروسية ليس بتغيير ما في السلة او تبديلها، بل بتعديل ملامحها، لتنوب عن السلة الانتقالية ولو شكلياً، بما يخدم التوجّه الى مشروع حياة «دستورية» تحاول موسكو تمريره عربياً وإقليمياً، قد تقبله معارضات الخارج على مضض، كما حدث ويحدث في آستانة، اذ لا بديل في الافق الدولي، وكل ما سبق اللحظة السياسية الراهنة تجيّره موسكو لإنجاح هذه التجربة في استيعاب جميع أطراف الصراع الموالية والمعارضة، وتحافظ على خطوط التواصل مع الادارات الذاتية، التي بدأت بالظهور وفق الخرائط الأمنية والسياسية المتفق عليها بين موسكو وواشنطن، وتوابعهما، وتوابع توابعهما؟

العمل السياسي لا تزال موسكو تقود ركبه، وتحيط خيوطه بسرية تامة، يُعتقد أنها لا تلغي الواقع ولا تستبدله، وتكتفي بالتعديل والرتوش، استناداً الى منطق الحجج الأخلاقية في طبيعة ما آلت اليه الأمور جغرافياً وديموغرافياً، فوقف الاقتتال طوعاً وكراهية، فتح الأبواب للأفكار الواقعية التي حولت المقاتلين الى العمل السياسي، ويتم تأهيلهم للدخول في لعبة دستورية شبه ديموقراطية، تصنِّع لها حركات سياسية لا عرقية في الأقليات والأكثريات، لتحد من سطوة أخطبوط التعصب الذي تمتد أذرعه الى الأرضية الثقافية للحياة السياسية، وخرائطها الملتبسة؟

لعبة شبه ديموقراطية، يصعب أن نتخيّل نجاحها لأن صنّاعها أساساً لا يؤمنون بها، سواء من حملوا السلاح وقاتلوا، أو من راعيها التحالف الثلاثي الروسي- الإيراني- التركي ذو الأيديولوجيات الاقصائية المتنافرة المتناحرة، لكن السلة الدستورية التي يتأبطها المبعوث الدولي، ورديفتها الاستشارية التي أنجز تأهيلها وقدّمها على بقية السلال (وكلتا السّلّتين صناعة روسية)، يُفترض أن تساهما في ضبط إيقاع اللعبة مع الإرادة الدولية ولو شكلياً، وأغلب الظن أن هذه بداية «التحولات النوعية» التي بشَّر بها دي مستورا، وليس توحيد المعارضات لوفدها التفاوضي الذي لا يقدم ولا يؤخر؟

وصل السوريون وهم يرصدون نهايات الاقتتال «وليس نهاية الصراع» الى ضياع ملامح هويتهم الوطنية، وبوادر تفكك العقد الاجتماعي في ما بينهم، نظراً الى ما حلّ بالأرضية الثقافية من تخريب وتغريب بسبب تزاحم الاضداد وتناحرها، وبروز الادارات الذاتية في الخرائط المحددة جغرافياً وديموغرافياً، فالهوية المناطقية بدأت تقدم نفسها، وتراود حتى المعارضين لها، ولن يُستغرب طرحها بديلاً من الهوية الوطنية، او القومية، او الأممية.

في الشمال السوري الهوية القومية الكردية جاهزة لتحل بديلاً من القومية السورية والعربية، وجزء آخر في الشمال أيضاً، يستعد لإعلان الحرب على الوطنيات والقوميات، السورية والعربية والكردية والتركية والشركسية والشاشانية، وما يتفرّع عنها، وقد يعلن بين عشية وضحاها تبرئة محافظة إدلب من ماضيها الانساني العريق، وتدمير كل الأوابد والآثار وبقايا الحضارات العظيمة التي اكتشفها في «ايبلا» العالم الايطالي الشهير باولوماتييه.

الجنوب السوري بدأ يدير أموره ذاتياً، ويُنتظر ان تشكل الغوطة الشرقية، والقلمون الشرقي، وتلبيسة شمال حمص، أداراتها الذاتية بعد ان تستقر حدودها، والدب الروسي يعمل بلا كلل على توزيع الادوار المحلية والمركزية.

يصعب تحقيق اختراقات سياسية ملموسة كيفما قلَّبنا الأمور، لأن المشكلة لا تنتهي بإرضاء المعارضة والمنصات على اختلاف ألوانها، فالنظام بدوره ليس سهلاً إرضاؤه، وليس سهلاً عليه توزيع حصته من الكعكة السياسية على حلفائه، واتباعه، ومكونات جبهته الوطنية التي سلمته قيادتها في السرّاء والضرّاء، ثم هيئة التنسيق الوطنية المعارضة المستقلة عن المعارضة والنظام والدول الداعمة لكليهما، ومجموعة أحزاب جديدة (طبعاً معارضة) وتنتظر نصيبها ولو في القرارات الإرضائية الروسية.

الاجماع السوري على وقف القتال لا ريب فيه، وعدا ذلك يجسد المثل القائل (اذا لم يكن ما اردتَ فأرِدْ ما يكون)، في هذا المكان وضعت الحرب أوزارها بنتائجها الخرائطية والديموغرافية، بعيداً من إرادة السوريين، والحياة السياسية المطروحة للتداول قد تجمد الرغبات آنياً، أمّا التخلي عنها فهذا امر آخر يصعب على السياسة تداركه.