طيب تيزيني

 يكتب الأديب الروسي الشهير فيودور ديستوفسكي في «يومياته» عام 1877، أي قبل أربع سنوات من بدء المذابح والاعتداءات على اليهود في روسيا صيف عام 1881، والتي كانت من تدبير السلطات القيصرية إثر حادث اغتيال القيصر الكسندر الثاني. كما كان لرواد الحركة الصهيونية ضلع في هذه الاعتداءات، كي يتسنى لهم استغلالها بعد حين،

في الترويج للهجرة إلى فلسطين، يكتب الأديب إياه (ص 6 من المسألة اليهودية - عرّبها عن الروسية موفق الديلمي - دار ابن رشد للطباعة والنشر، 1983): أنا لا أريده بل لا أملك القدرة على التصديق بأن الشر حالة طبيعية للبشر ص 7). وحين يتحدث عن «الدولة في الدولة» لدى اليهود، يحدد ملامحها في مجموعة منها ملامحها، وهي: «الانعزال والانطواء على صعيد المعتقدات الدينية المتحجرة، الانغلاق والإيمان بأن ليس ثمة شخصية آدمية سوى الفرد اليهودي. أما الآخرون - وإن كان لهم وجود، فينبغي - رغم ذلك - تجاهل هذا الوجود. «تنّح عن الشعوب وكوّن هويتك الخاصة، واعلم أنك منذ الآن الوحيد لدى الرب. أما الآخرون فافتك بهم أو اجعلهم عبيداً أو سخرهم. وحتى حين تُحرم من أرضك ومن هويتك السياسية.. آمن دوماً بأن كل ما وُعدت به، سوف يتحقق. وما ظهرت هذه «الدولة في الدولة» إلا من غريزة حماية الذات (ص 9 من المرجع المذكور).

في هذه الملاحظات كلها التي عبر عنها الأديب الروسي الكبير بحق اليهود، يقدم مقارنة بين اليهود والروس، وكذلك الآخرين، ليصل إلى النتيجة التالية: «أمِنَ المعقول الزعم بأن أحداً غير اليهودي دأب يأتلف مع مضطهديه ويشتري منهم رقاب أبناء الشعب الروسي، ليصبح هو مضطدهم الجديد. لقد جرى كل هذا، إنه تاريخ، حقيقة تاريخية. لكننا لم نسمع يوماً أن الشعب اليهودي ندم لذلك، في حين تراه يتهم الشعب الروسي بأنه لا يكن له المحبة، كما ينبغي - 42». وهنا، يصرخ الأديب الكبير، ويقول: وكفى، كفى، لنتخذ الأقوام اتحاداً روحياً تاماً، ولتنتف الفوارق في الحقوق! لأجل ذلك، أتوسل قبل كل شيء، إلى منتقدي ومراسلي من اليهود أن يكونوا، بالمقابل، أكثر تسامحاً وعدالة تجاهنا، نحن الروس. وإذا كان استعلاء اليهود و«تقززهم المأساوي» المستديم من معشر الروس مجرد تحامل، مجرد «ثؤلولة تاريخية»، أي لا يكمن في أغوار عميقة من ناموسهم وكيانهم، فليتبدد كل هذا على وجه السرعة، ونلتحم بروحية واحدة وأخوة تامة على أساس التعاون لصالح قضيتنا الكبرى، قضية خدمة أرضنا ودولتنا ووطننا! ولتخمد الاتهامات المتبادلة، وليخف سعار هذه الاتهامات المقيم والذي يُيق الفهم الواضح للأشياء. وبوسعنا أن نكفل الشعب الروسي: إنه سوف يقبل اليهودي بأخوة تامة، بصرف النظر عن الفوارق في العقيدة «ص43».

هكذا انتهى الأديب الروسي «ديستويفسكي» إلى تلك النهاية السعيدة، التي ظهرت في عبق الاحترام لكل الأديان، والتي تتنافى مع ما يعتبر صراعات بينها، من موقع أن هذا الدين أو ذاك يلغي غيره هذا هو مبدأ منهجي بالاعتبار الابيستيمولوجي المعرفي. وليس لهذا الفريق أو ذاك أن يتجاوزها. لأن الحكم على هذا أو ذاك من الأديان يجد مرجعيته في المصدرية اللاهوتية، التي ينتمي إليها المؤمن. ومن ثم، فإن المناكفات والصراعات بين المؤمنين بمرجعياتهم المتعددة تجد طريقها إلى إشعال الحروب. وقد وضع الدين الإسلامي مثلاً الأديان المتعددة أمام البشر متعددي الأعراق والاتجاهات والمناطق العالمية والمحلية، فترك لهم أن يختاروا ما يرونه الأقرب إلى العقل والإنسانية والترابط البشري، فأعلن بوضوح: لكم دينكم ولي دين!

أما الصراعات والخلافات فمتروكة للمرجعيات الدينية أن تبارك بها، طالما أنها تسهم في الوصول إلى تآخي البشر بعيداً عن الحروب والتطاحن، التي تمزق المجموعات البشرية، من موقع أن ذلك يجد نهاياته وعواقبه في المرجعيات الدينية والمنطقية. أما الجميل في ذلك فيكمن في أن المرجعية اللاهوتية أو المرجعيات الدينية هي التي تساعد على الوصول إلى النتائج التي تأخذ صيغاً مُعقدة أحياناً.