&أحمد يوسف أحمد

أكتب هذه السطور، وهناك اتفاق صامد للتهدئة منذ يومين بين «حماس» وغيرها من فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة وبين إسرائيل، ومع ذلك، فإن أحداً لا يستطيع أن يقطع في الظروف الحالية باستمرار صموده، وقد لف الغموض ما يجري في قطاع غزة في الآونة الأخيرة بين تصعيد متبادل وحديث عن اتفاق تهدئة طويل المدى فيه بعض من رائحة «صفقة القرن» على نحو جزئي، بمعنى تقديم مكاسب اقتصادية ملموسة للفلسطينيين تخفف كثيراً من الحصار أو حتى تنهيه من الناحية العملية مقابل هدنة طويلة المدى لا تتعهد فيها «حماس» بوقف أي قصف بالصواريخ فحسب، وإنما أشكال المقاومة الشعبية كافة كمسيرات العودة، و«الطائرات الورقية» التي سخر البعض منها في البداية، كما هي العادة كلما ابتكر الفلسطينيون وسيلة جديدة للمقاومة، لكن سرعان ما اتضح أنها أزعجت إسرائيل لدرجة اشتراط دخولها في بنود أي اتفاق للتهدئة، وكذلك تفرج «حماس» عن أي أسرى لإسرائيل لديها أو جثامين لقتلاها.


ومن الواضح رغم الجهود الأممية والمصرية الكثيفة للتوصل إلى هكذا اتفاق أنه تعثر كثيراً لأسباب مفهومة، فكلا طرفيه يريد الظهور بمظهر المنتصر الذي لم يفرط في أي من شروطه، وهذا مستحيل طالما نتحدث عن مفاوضات لا بد وأن تتضمن تنازلات من طرفيها حتى وإن تباينت وطأتها من طرف لآخر، لأن معنى اللجوء للتفاوض أن طرفيها لم يستطيعا تحقيق كامل مطالبهما بالقوة.
ومع ذلك، فلا شك أن كلاً منهما يحاول تحقيق أفضل ما يمكن من العملية التفاوضية، وهو بالنسبة لإسرائيل تسوية نهائية تعترف فيها «حماس» بالدولة الصهيونية، وتتخلى عن خيار المقاومة من أجل استرداد كامل فلسطين، وبالنسبة لـ«حماس» فك الحصار عن غزة والاعتراف بسلطتها، ولا بأس أن يكون ذلك في إطار دولة مع هدنة طويلة المدى يمكن لـ«حماس» أن تدعي بموجبها أنها لم تتخل تاريخياً عن الأهداف المعلنة عند تأسيسها، ومن صعوبة تحقيق الحد الأقصى لمطالب الطرفين، وعدم قدرة أي منهما على إلحاق الهزيمة الكاملة بالآخر تنجم الصعوبات والمد والجزر اللذين شاهدناهما في السعي المكثف للتوصل إلى اتفاق في الأسابيع الأخيرة، وتنشأ احتمالات الانقضاض على أي اتفاق يتم التوصل إليه كلما تغيرت الظروف، كما حدث لمصير اتفاق «أوسلو»، عندما وصل اليمين إلى الحكم في إسرائيل بعد ثلاث سنوات من التوصل إليه.
وليس هذا الوضع بجديد على غزة، أو الأراضي الفلسطينية المحتلة كافة، فقد شهدت انتفاضة الأقصى، بعد سبع سنوات من التوصل إلى اتفاق أوسلو، كما شهدت غزة عديداً من اتفاقات التهدئة، وبالذات بعد وصول «حماس» إلى السلطة فيها في 2006 ومنذ العدوان الإسرائيلي الوحشي عليها 2008-2009 وكانت جميعها تتعرض للاهتزاز والانهيار بسبب خروقات تحدث من الجانبين، ويرجع السبب في هذا لكون اتفاقات التهدئة هذه لا تقدم حلولاً للمشاكل، وإنما تقدم تسكيناً لها.


وطالما بقيت جذور المشاكل، فإن احتمالات تفجر العنف من جديد تبقى قائمة، ولذلك فإنه لا مفر أمام النخبة السياسية الفلسطينية من السعي لتحسين الوضع الفلسطيني في ميزان القوى في الصراع، لأنه وإنْ كانت إسرائيل غير قادرة حتى الآن على تصفية القضية الفلسطينية بالكامل بعد نحو قرن وربع من إعلان المشروع الصهيوني في فلسطين في مؤتمر بازل، وبعد سبعين عاماً من نشأة إسرائيل، فإنها حققت دون شك مكاسب استراتيجية أهمها، أنها تسيطر بالقوة الآن على كامل أرض فلسطين وتحصر الفلسطينيين في نحو خمس أرضها التاريخية وحتى هذا الخمس تنتهكه بالنشاط الاستيطاني المسعور، وتتفنن في إيجاد منظومة من القوانين تشرع اغتصاب الأرض، وتشريد أصحابها، وآخر تجلياتها قانون الدولة القومية.


وفي الوقت نفسه، نجد أن النخبة السياسية الفلسطينية تعاني الانقسام والفشل في تجاوزه على نحو يستحيل تبريره من منظور المصلحة الوطنية الفلسطينية، وإنْ أمكن تفسيره بالمصالح الضيقة للفصائل الفلسطينية المتصارعة، وهذا إثم تاريخي ستتحمل هذه الفصائل وزره، سواء منها من كان سبباً في الانقسام ومستفيداً منه، أو من كان عاجزاً عن بلورة نخبة جديدة تعبر عن الشعب الفلسطيني الذي لم يقصر يوماً في مسؤولياته النضالية، وفي الحفاظ على هويته وإبداع أشكال جديدة للنضال مهما طال الزمن.

&

&