حمد المانع

إن الحاجة ماسة لحصار هذه التجارة المشبوهة التي تستنزف جيوب مواطنينا، وصحتهم، وأيضاً أفكارهم بالتكريس للدجل والجهل، وتكرس أيضاً لحالة من الفوضى في ظل شيوع أسماء منتجات طبية ضررها أكثر من نفعها..

أن نكون دولة ثرية يتمتع مواطنها بمستوى معيشي مرتفع هذا أمر له كثير من التبعات والضرائب التي يدفعها المواطن حين يصبح هدفاً للأفاقين والدجالين والمشعوذين وبائعي الأوهام حول العالم، لكن من يعنونني منهم هنا بحكم التخصص وأيضاً بحكم سابق الخبرة هم المعالجون الشعبيون وأيضاً المعالجون بمنتجات يدعون القراءة عليها وقدرتها على إزالة الأمراض بفضل قراءتهم.

ولقد واجهنا كثيراً من هؤلاء في أثناء وجودنا على رأس العمل في الوزارة وكافحناهم، فهم كالأمراض المتوطنة التي يبتلى بها مواطنو البلدان الثرية، ولا سيما إذا كانت هناك قطاعات من المواطنين يعيشون حالة من العزلة الثقافية أو الاجتماعية داخل بلدانهم تجعل منهم فريسة مثالية لهذه الطفيليات التي تعلق في أجساد المجتمعات فتستنزف جيوب محدودي الوعي والخبرة من مواطنيها في مقابل بيعها الأوهام عليهم.

لكن هؤلاء عادوا إلى الواجهة من جديد بقوة في السنوات الأخيرة في ظل ما وفرته لهم شبكات التواصل الاجتماعي من قدرة على الانتشار بفتح حسابات استقطبوا من خلالها قطاعات واسعة من مواطنينا الذين كانوا هدفاً رئيساً لهم لاصطيادهم عبر إعلانات تستغل حاجات الناس وآلامهم. أيضاً أصبح في وسع هؤلاء المرور إلى الناس وخداعهم عبر إعلانات مشبوهة نجدها على كثير من الفضائيات مجهولة المصدر التي تعد في تقديري شراكاً ينصبونها للناس للإيقاع بهم.

أقول هذا وقد لاحظت في الفترة الأخيرة نشاطاً محموماً لهؤلاء وانتشاراً غير مسبوق لإعلاناتهم على شبكات التواصل والفضائيات، بل كان بالغ الإزعاج لي أن وجدت فضائيات لبعض هؤلاء على الأقمار الصناعية، وهذا مؤشر خطر كبير، يعني أن بضاعتهم تلقى من الرواج ما يجعل من سلعتهم المغشوشة الزائفة بضاعة رائجة بين قطاعات واسعة من الناس، لكنني ألاحظ تركيزهم الأكبر على المملكة بحكم ما يتمتع به مواطنوها من مستوى دخل مرتفع.

ولم تعد وسائل المواجهة القديمة مجدية الآن، فأحياناً يكون الهدف (المشعوذ أو الدجال) خارج البلاد، فلن يمكننا تعقبه، وهذا يفرض علينا أن ننتهج سياسة تجفيف منابع الخرافة بالقضاء عليها هنا في الداخل في الأوساط التي تصدق في هذا الدجل من موطنينا، وهذه مسؤولية لا يمكننا تعليقها في رقبة وزارة بعينها كالصحة مثلاً، بل تحتاج إلى تضافر أكثر من جهة، منها الصحة بالطبع، لكن فيما يخص المنتجات المقري عليها هذه فالأمر يحتاج إلى أن يكون علماؤنا الأجلاء طرفاً في حملة توعية وطنية كبرى تقضي على هذه الخرافات في عقول الناس.

ولا أود أن تنصرف الأذهان فقط إلى هؤلاء الدجالين، فكثير من المنتجات التي يروج لها تحت اسم الطب البديل، أو العلاج بالأعشاب، لم يخضع لأي مراجعة، ولا نعرف لتركيباته مصدراً محدداً، فتبقى مجهولة المصدر، وكما نرى فهيئة الغذاء والدواء ما تكاد تنقضي أيام إلا وتكشف عن خلل في منتج طبي أو غذائي لمخاطر في تركيبته، فما بالنا بمنتجات كاملة نجد إعلاناتها سابحة في الفضاء الإلكتروني لا نعرف لها تركيبة، ولا شركة مصنعة، ولا مرجعية علمية أو دوائية، وفوق هذا وذاك فهي وصفات وتركيبات تقدم لمرضى من دون توقيع كشف طبي عليهم أو خضوعهم لأي فحوصات تكشف مدى تأثير هذه المنتجات عليهم، لكن قطاعاً منهم تخدعه عبارات الدعاية المضللة التي يستخدمها هؤلاء تحت وطأة المرض أو الاحتياج الإنساني، ما يعني أننا نواجه كارثة بما تعنيه الكلمة من معنى، كارثة لم تعد مطاردة المتسبب فيها مجدية لأنه كما أشرنا سابقاً قد يكون خارج البلاد، يرسل منتجاته مجهولة المصدر والمكونات إلى مواطنينا، ويتلقى أموالهم.

ولقد بلغ استخفاف أحد هؤلاء الدجالين بأن يعرف نفسه بالدكتور، مدعيًا حصوله على درجة الدكتوراه في تفسير الأحلام، ولا أعرف حقيقة في أي رؤيا حصل على هذه الدكتوراه العجيبة، ومن أعضاء هيئة التدريس الذين ناقشوه فيها ومنحوه هذا اللقب، والرجل متعدد المواهب ما شاء الله، فهو «خطيب، وداعية إسلامي، وراق شرعي، ومصلح أسري، وناقد فني بما لا يخالف الشرع»، هذا ما نما إلى علمنا من فيوض علم الرجل، والآتي أعظم.

إن الحاجة ماسة لحصار هذه التجارة المشبوهة التي تستنزف جيوب مواطنينا، وصحتهم، وأيضاً أفكارهم بالتكريس للدجل والجهل، وتكرس أيضاً لحالة من الفوضى في ظل شيوع أسماء منتجات طبية ضررها أكثر من نفعها، وتكرس للتداوي الشخصي الذي أعده في تقديري واحداً من أخطر الأمراض التي يمكن أن تصيب مجتمعاً من المجتمعات، فوصفة طبية واحدة خاطئة قد تقضي على مريض بدلاً من أن تعالجه، بل قد تصيب المريض بعلل لا شفاء لها. لذا أدعو جميع المعنيين بالأمر وفي مقدمتهم وزارة الصحة وهيئة الغذء والدواء إلى وضع هذا الملف المؤرق على قائمة أولوياتها.