صدقة يحيى فاضل

ما زال محبو السلام في العالم يأملون أن تسعى كل الدول لتحقيق مصالحها المشروعة، دون مساس بالقيم الإنسانية والأخلاقية التي يثمنها الجنس البشرى – بصفة عامة – وأن تحرص الدول الكبرى بخاصة (ولأنها عماد العلاقات الدولية دائما) على تحقيق ولو الحد الأدنى من العدالة الدولية، على الساحة السياسية الدولية التي تتصدرها. وفي الوقت الراهن نجد أن الولايات المتحدة في صدارة هذه الساحة، فهي تتسيدها – مؤقتا، وإلى حين. فلو تدوم لأحد ما وصلت لها. وهذه الدولة تدعي أنها حامية العدالة، وحاملة مشعل الحرية والمساواة، وقلعة الديموقراطية. وأوشك بعض قادتها على الادعاء بأنها: «رسول العناية الإلهية»، وملكة الإنسانية المتوجة؟! وكانت تحاول جهدها «إقناع» العالم بأنها الدولة المثلى الأولى في التاريخ البشري قاطبة، ولكن سرعان ما تبين أن أغلب هذه «المفاخر» هي مجرد ادعاءات... يتخفى وراءها وحش إمبريالي كاسر.

ولا يجوز – في الواقع – إنكار ما كان – وما زال – لأمريكا من مساهمات رائعة في مسيرة الحضارة الإنسانية. كما أنها أحد أعرق الدول في تطبيق مبادئ الحرية والعدالة والمساواة في الإطار الديموقراطي، ولكن داخليا – بصفة أساسية. أما على الساحة الخارجية، فإن أمريكا كثيرا ما كانت ضد هذه المبادئ السامية، وضد استتبابها وانتشارها، في بعض أنحاء العالم – على الأقل. ما جعل هذه الدولة «العظمى» – خاصة الآن – مثالا على الدول التي تدعي أشياء وتفعل عكسها.

***

ونتيجة للدور الكبير الذي تلعبه الدولة العظمى عادة في العلاقات الدولية، فإن ما تفعله ينعكس على شتى أرجاء العالم، سواء بالإيجاب أو السلب. ومنذ تسنم الولايات المتحدة القطبية العالمية منفردة، أخذت أحوال العالم – بصفة عامة – تتدهور، وقيمه الطيبة تتآكل، وفي أغلب جوانب الحياة. أما سياسيا، فقد حدثت جرائم ومهازل وأخطاء فادحة... جعلت كفة السلبيات ترجح على ما كان هناك من إيجابيات قليلة. ومن الأمثلة البارزة على هذا التدهور السياسي تراجع دور «الأمم المتحدة»، وتحول هذه المنظمة الأممية الأكبر إلى مجرد «أداة» و«هراوة» في يد الجبروت الأمريكي الأرعن. فقد اختطفت الولايات المتحدة هذه المنظمة، وجعلت منها «رهينة»... تستخدمها – متى شاءت – طلبا لفدية معينة، من هذا الطرف الدولي أو ذاك، وتحقيقا لحاجات غالبها استعماري (إمبريالي). وسخرت «الأمم المتحدة» لتصبح «وسيلة» من وسائل تحقيق أهداف السياسة الخارجية الأمريكية بشكل فاضح، وكأن المنظمة مجرد دائرة تابعة لوزارة الخارجية الأمريكية. فعبرها تعاقب أمريكا هذه الدولة، أو تكافئ تلك... دون تحرٍ لأبسط مبادئ العدالة، بل وبما يخدم فقط مصالح خاصة (تنسب لأمريكا) في المدى القصير، تخص فئات أمريكية محدودة.

وكان يفترض أن تكون هذه المنظمة هي الحارس الأمين والنزيه على أمن وسلامة العالم، عاملة – بأقصى ما يمكن عمله – لإقرار السلم والأمن الدوليين، على أسس عادلة وإيجابية. ولكن أمريكا – وربيبتها إسرائيل بخاصة – حولا (بأساليب معروفة) هذه المنظمة إلى اتجاه معاكس... وجعلاها «أداة»... كثيرا ما تقر الظلم، وتبرر العدوان والحصار والقتل. وما زال العالم العربي هو أكثر مناطق العالم تضررا من هذا الظلم، وما تفرع عنه من مغالطات ومعايير مزدوجة، وذرائع عجيبة.

وما حصل مؤخرا في مجلسي الأمن والجمعية العمومية يؤكد الحاجة الماسة لإصلاح هذه المنظمة، وإلغاء هيمنة القوى الكبرى على إرادتها الدولية. فبعد القرار الذي اتخذه الرئيس الأمريكي الحالي بشأن القدس، هب معظم العالم لرفض قرار ترمب. واتضح ذلك جليا في تصويت «الجمعية العمومية» للأمم المتحدة... التي تمثل غالبية العالم، بعيدا عن فيتو القوة الغاشمة. وكانت النتيجة كالتالي: 128 ضد اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل (من جانب واحد)، 9 مع اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل (أمريكا، إسرائيل، هندوراس، جواتيمالا، توغو، ميكرونيزيا، ناورو، بالاو، مارشال)، 35 دولة امتنعت عن التصويت (مع ميلها ضد القرار).

إن التأمل في هذه النتيجة فقط يوضح إحدى «المشاكل» والإشكاليات التي نشير إليها هنا، والتي تتكرر مرات ومرات. الغالبية الساحقة من العالم كثيرا ما تقف في جانب... بينما أمريكا وبضع دول صغيرة تافهة تعتاش على المعونة الأمريكية، تقف في الجانب المضاد...؟! وسارعت إدارة ترمب لمعاقبة المنظمة العالمية عبر تخفيض مساهمتها في ميزانية 2018، وتوعد الدول المخالفة.

***

لاشك أن العالم في أمس الحاجة إلى «منظمة» تجمع شمله، وتعمل على حفظ السلم والأمن الدوليين، وتدعم التعاون الدولي، بما يخدم المصلحة البشرية. ولكن هيمنة قوى بعينها على هذه المنظمة، وتسخيرها لخدمة أهدافها، بدلا من رعاية المصلحة العالمية، يلغي الغاية السامية من وجودها، ويحولها إلى أداة كريهة لظلم وقهر بعض الشعوب. لابد، إذن، من تحرك عالمي لوقف هذه السيطرة الغاشمة – سواء صدرت من أمريكا أو من غيرها. وباستطاعة القوى الكبرى، وبخاصة: الاتحاد الأوروبي، الصين، روسيا، اليابان، أو ائتلاف من هذه القوى وقف هذه المهزلة، فما يجري ليس في صالح أي منهم، ناهيك عن أن يكون لصالح العالم ككل. كما أنه حري بالمجموعات الإقليمية المختلفة أن تعلن رفضها لهذه السياسات، وتتخذ عملا يؤكد امتعاضها... كأن تنسحب (جماعيا، أو فرديا) من المنظمة، احتجاجا على استمرار خضوع هذه المنظمة «العالمية» لهيمنة مغرضة، تجعل تحقيقها لأهدافها الأصلية السامية في عداد المستحيلات.

ومنذ الخمسينات، ترتفع أصوات تنادي بضرورة إعادة النظر في ميثاق هيئة الأمم المتحدة، ووظائفها، ومهامها... إلخ. وقد انصبت مطالب «إصلاح» هذه المنظمة على معظم بنود ميثاقها، وبخاصة ما يتعلق بصلاحيات مجلس الأمن الدولي (وعلى وجه الخصوص: العضوية، والتصويت فيه)، وكذلك مجلس الوصاية، وبقية أجهزة الأمم المتحدة، إضافة إلى ضرورة تعديل وبلورة وتوضيح كثير من بنود «الفصل السابع»... الذي كثيرا ما اتخذ مطية للاعتداء على هذه الدولة أو تلك.

كما تضمنت هذه المطالب ضرورة نقل مقر هذه المنظمة من أمريكا إلى بلد محايد مناسب... لا يعمل – ولا باستطاعته أن يعمل – على الهيمنة على هذه المنظمة، بما يخدم مصالح خاصة فيه، ويلغي بالتالي الغرض الذي أنشئت المنظمة من أجله، مستغلا وجود المقر فيه. وسبق أن اقترحت «فاليتا»، عاصمة مالطا، لتكون هي مقر الأمم المتحدة، لموقعها، وصغرها. ويمكن إحياء هذه الفكرة الآن، أو اقتراح مكان مناسب آخر، بدل نيويورك. ولكن الأهم هو أن يعدل دور وسلوك هذه المنظمة، والعالم الآن في أمس الحاجة لهذا التعديل، وبأسرع ما يمكن... وقبل فوات الأوان.

قالت وقلت:

قالت لي ابنتي بعد أن قرأت هذا المقال: ليتك، أبتاه، ركزت مقالك على ضرورة إصلاح العرب أنفسهم، ومنظماتهم أولا، بدل التركيز على المنظمة العالمية؟

قلت: كثير من مقالاتي السابقة تطرقت لما طالبتِ به. ثم إن العالم، وبعض منظماته، يلعب دورا هائلا في تكريس ما فيه عالمنا العربي والإسلامي من إشكاليات وتخبط وهوان.