حمد الماجد 

علق صديق على تفاعل بعض وسائل الإعلام العربية والأعجمية وكذلك عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مستنكراً ما سماه تزييفاً متعمداً لحقائق التاريخ الذي نشهد وقائعه، ويتساءل: إذا كان هذا تزييف وقائع يومية نحن أحد شهودها ومتابعيها، فكيف نثق بصدقية أحداث ضخمة وصلت إلينا من التاريخ البعيد والقريب؟

والأمر في تقديري ليس بهذا التسطيح. ومع التسليم بأن هناك تشويهاً متعمداً لبعض حقائق التاريخ حين يدونه المنتصر أو المغلوب، فإن الصحيح أيضاً أن عدداً من المؤرخين يسلطون المجاهر؛ إما على السلبيات أو الإيجابيات، كما جرى في تدوين تاريخ الزعامات ذات التاريخ المثير للجدل، كالحجاج بن يوسف الثقفي، والخليفة أبي العباس السفاح، والمعتصم، والأمير الأندلسي عبد الرحمن الداخل... والقائمة تطول.


ثم إن الحياد الكامل في كتابة التاريخ مستحيل كاستحالة دعوى الحياد في وسائل الإعلام. وعليه؛ فكل مؤرخ وراصد للتاريخ تجده يكتب أحداثه من زاويته؛ لا أقصد خلق الأحداث وفبركتها، فهذه فئة وضيعة لا تستحق من يلتفت إليها، ولكن تفسير الأحداث التاريخية وتحليلها وإضفاء الأوصاف السلبية أو الإيجابية تبعاً لهوى المؤرخ ومصلحته والزاوية التي ينظر منها إلى وقائع التاريخ. فالمؤرخ ابن إياس في كتابه الشهير «وقائع الدهور» تحيز لدولة المماليك التي سقطت وهاجم الدولة العثمانية التي هزمت المماليك، لأن ابن إياس، ببساطة، ينتمي للمماليك. ومؤرخ آخر؛ هو شفيق غربال، مالت كتابته لتاريخ حقبة الأسرة الملكية المصرية؛ لأن القصر عيّنه ليكتب تاريخه، وهذا ميل بشري طبيعي يصعب أن ينعتق منه أي مؤرخ.


هذا الميل قد يعززه الانتماء العرقي أو الديني أو الآيديولوجي أو المادي، ولهذا نجد عدداً من المؤرخين «البيض» لا يرون في المحتلين الأوروبيين لأميركا إلا أنهم مكتشفون مغامرون ورِعون مسالمون، خاضوا لجّة المحيط الأطلسي وأعاصيره العاتية لنشر الدين المسيحي في قوم متخلفين، فيما يراهم غيرهم محتلين شرسين عاملوا سكان البلاد الأصليين معاملة قاسية ونظموا عمليات إبادة جماعية؛ حتى إن دراسة نظمتها جامعة بيركلي في ولاية كاليفورنيا أفادت بأن عدد السكان الهنود الحمر في الأميركتين حين وصول طلائع المستكشفين الأوروبيين كان نحو 100 مليون، وتقول الإحصاءات الرسمية الأميركية إن عددهم كان لا يتجاوز 25 مليوناً في نهاية القرن التاسع عشر، مما يعطي دليلاً على فظاعة التطهير العرقي الذي مورس ضد الهنود الحمر.
وخلاصة القول إن منصة محكمة التاريخ ستجمع المئات؛ بل ربما الألوف من القادة السياسيين والعسكريين وقادة الحركات الإصلاحية وزعامات التحرر في طول العالم وعرضه، ممن خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، ولو لم يكونوا كذلك لصافحتهم الملائكة في الطرقات. عدد من هؤلاء القادة التاريخيين مارس في إحدى فترات الحكم عنفاً وجبروتاً وقسوة رأى فيها من أيده وتعاطف معه إجراءً ضرورياً للحفاظ على كيان الدولة من التخلخل ثم السقوط، ورأى فيها ضحاياه والناقمون منه وكارهو دولته إفراطاً في استخدام القوة وقسوة ودموية ووحشية، كتلك القسوة التي مارسها بعض خلفاء وقادة بني أمية وبني العباس؛ ومنهم أبو العباس السفاح، والحجاج بن يوسف الثقفي، وهل اشتهر الأخير إلا بالبطش وتساهله في الدماء؟ حتى وصفه شيخ المؤرخين ابن كثير بأنه ناصبي يناصب آل البيت العداء، ومع ذلك حفظ له المؤرخون المنصفون كالإمام الذهبي إنجازاته في توطيد الدولة، وقمع الخوارج، والفتوحات.


هذا الأسلوب المتوازن في الحكم على الزعامات السياسية والعسكرية التاريخية هو المطلوب؛ لا أن يجعلهم البعض قديساً كريماً، والبعض الآخر يعدّه إبليساً لعيناً.