عبدالله بشارة

 مع اشتداد الجفاف السياسي وتلاشي الحيوية الحوارية في المشهد المحلي الكويتي، ووضوح الانسداد في أفق التطوير الديموقراطي، تذكرت لقاء واسعا في الدوحة، عاصمة قطر، منذ سنتين، عن أزمات الديموقراطية، وسألت رئيس هولندا السابق وكان مشاركاً عن تجربته في تعايش الديموقراطية مع الدولة الريعية، فردَّ بأن: التعايش ممكن مع صعوبة تواجهها المعارضة في ترسيخ استقلالها وبعدها عن الحاجة لتسهيلات تقدمها السلطة، لأن أهم شروط الممارسة الديموقراطية استغناؤها عن اغراءات السلطة التي تسعى الى اضعافها، ولذلك فإن أهم عنصر في حيوية المعارضة استقلالها السياسي والاقتصادي والخدماتي عن السلطة، فلا حيوية من دون معارضة، ولا معارضة مؤثرة وفاعلة من دون استقلال عن السلطة.

ومع ذلك، ما زالت الكويت تسعى وتحاول جاهدة لكي تتكيف مع المضمون الديموقراطي الذي جسده الدستور، وهي محاولات مكلفة على صعيد الاستقرار والمال وضيق المناورة، وغياب الأحزاب، فأكبر المعوقات هي ملكية الدولة لكل منابع الدخل وكل الأراضي، بالاضافة إلى توظيف كل الكويتيين، وفوق ذلك تستجيب الحكومة لما يريده أعضاء البرلمان من توسع في الامتيازات للمواطنة في كل المجالات حتى تلك التي لا يقرها الدستور، بالاضافة إلى تدخلات برلمانية في تسويق مقترحات تعزز الاتكالية الرعوية التي يتميز بها المجتمع الكويتي وبدعم من تجمعات أهلية مختلفة.
لكن المعارضة لها شروط، فلكي تنجح وتبهر فلا مفر من استقلالها المالي والسلوكي وإبراز شخصيتها السياسية مع طرح مقترحات داخل البرلمان وللرأي العام فيها تحسينات فكرية وسياسية واقتصادية.

والواقع أنه لا توجد معارضة، وإنما هناك ممارسة أفراد يتحرّكون بدافع المصالح، وليس لهم دور في تصويب الإنفاق، بل تحركهم رغبة في المزيد من العطاءات الشعبوية مع اندفاعهم بتجاهل القانون إلى أبعد مدى، فلا تتوقف المخالفات عند حد، وإنما تدفع بعض النواب إلى شن حملات انتقامية ضد الوزير المحافظ على القانون، وتسعى لاغتياله سياسياً بمواجهات لفظية عنيفة لا يملك الوزير آليات لمجاراتها، ومن هنا انطلقت مبادرة، تصويب العمل البرلماني والمقصود بها احترام بنود الدستور بوقف الوساطات المخالفة، مع تقبّل الشروط العالمية لمعاني المعارضة، التي عليها الاعتماد على مواردها والفاعلة في النشاط السياسي الشعبي، بالتنوير من أجل ممارسة دور المعارض البناء الساعي لترسيخ الدستور ومبادئه.
تحتاج الديموقراطية لمناخ تتحسن فيه التنمية بكل أشكالها، الاقتصادية والبشرية، وسيادة القانون وحقوق الانسان، وجمعيات نفع عام نشطة لها دور في التثقيف والتوعية ورأي عام متابع بنزعة المساءلة، وهذه العناصر مجتمعة تؤسس للمجتمع المنضبط، فإذا تخلف عنصر منها عن دوره سادت الفوضى، والنظرة البسيطة لواقع ايطاليا واليونان مثلاً تقدم مثالاً للأضرار إذا برز خلل بين عناصر الديموقراطية، كما لم تنجح فرنسا في تحقيق خطوات تنموية تماثل جيرانها في بلجيكا وهولندا وألمانيا بسبب ضعف الحكومة المركزية أمام متطلبات التجمعات الشعبوية التي اعتادت على اسقاط حكومات مع تبدلات مستمرة في صيغ دستورية، بحثاً عن علاج لضعف بنيوي في التركيبة السياسية والاقتصادية، خاصة مع ارتفاع موجات الفساد التي تفرزها الآن الأزمات الاقتصادية.
ومشكلة الديموقراطية الكويتية الفضفاضة تتضاعف في غياب الأحزاب من الحياة السياسية، وهذا الغياب ساهم في تحريك شرائح المجتمع بافرازات لها نزعة الطائفية والقبلية بتواجد فئات تعطي أصواتها للمنتمين اليها من دون فحص للنهج السياسي الذي يتبعه الفريق، ومن دون أحزاب تنتشي الطائفية والشللية، ومع ذلك نعترف بأن الكويت لا تملك البيئة التي تتوهج بها الأحزاب، لأنها دولة رعوية حادة كل ما فيها مشمول برعاية حكومية، وتجربتها مع التجمّعات الحزبية المستوردة لم تأت بكشف ايجابي يعزّز ديموقراطية الكويت، لأن المحتوى لهذه التجمّعات منقول من ملفات وتجارب آخرين في حوض الشام والعراق ومصر.

هناك صعوبة لبروز الأحزاب في الكويت طالما كل ما في الكويت من منابع الدخل والتوظيف والاعاشة مملوكة للدولة، فلا توجد آفاق بديلة يمكن اللجوء إليها، ومع ذلك فإن الالتزام بالدستور كوثيقة تؤمن التوافق المجتمعي رغم نواقصه، يبقى الحصن الآمن لتفاهم المجتمع، مع متابعة التبدلات المستقبلية، لعلها تفتح أبواباً لا وجود لها الآن.

ورغم كل هذه السلبيات لا ننسى أن النظام السياسي في الكويت يرتكز على شرعية دستورية جسّدها الدستور في عام 1962، وترسّخت في أكتوبر 1990، في مؤتمر جدة، عندما تجدّدت البيعة في تمسّك الكويتيين بنظامهم السياسي، وتحوّل الدستور إلى وثيقة اجماع مجتمعي، يؤمّن الاستقرار، لكنه مع ذلك، يفرز صداعاً دائماً للمسؤول، لا سيما لرئيس الوزراء ولوزرائه، ويعود ذلك إلى متاعب من توغّل الدولة في كل عروق الرعاية الشعبوية.