نزار عبد القادر 

اعترفت السلطات الإسرائيلية بأنها شنّت ما يقارب مئة هجوم جوّي وصاروخي داخل سورية منذ بدء الثورة وحتى اليوم، مستهدفة مخازن وقوافل أسلحة عائدة لـ «حزب الله». ويبدو بوضوح أن إسرائيل تراقب بدقة شحنات الأسلحة المخصصة للحزب سواء كانت إيرانية أو سورية، وهي جادة لمنع وصول المزيد من الصواريخ المتطورة والطويلة المدى إلى قواعده في لبنان. ويبدو أن قناعة تولّدت لدى المسؤولين الإسرائيليين بأن الاستراتيجية العسكرية التي جرى اعتمادها في السنوات الست الماضية لم تعد ملائمة لمواجهة الأخطار المتنامية بفعل توسع سياسة الهيمنة الإيرانية في كل من العراق وسورية، مع ما تحقّق لها من مكاسب على الأرض بعد الاستيلاء على ممر «البوكمال»، وعلى الحدود السورية- اللبنانية بعد سيطرتها على قرية «بيت جن» في جبل الشيخ.

ومع توسُّع الدور الإيراني في سورية كان من الطبيعي أن يأخذ التدخُّل الإسرائيلي الديبلوماسي والعسكري في الأزمة السورية أبعاداً جديدة، بحيث إن المصلحة الإسرائيلية باتت تقتضي اعتماد مقاربة جديدة لاحتواء الأخطار المباشرة التي بات يمثّلها الوجود الإيراني المباشر على الأرض السورية، بالإضافة إلى «حزب الله» والميليشيات الأخرى التي استقدمتها إيران للمشاركة في الحرب.

شهدت العمليات الإسرائيلية تبدُّلاً نوعياً منذ نهاية صيف 2017 وذلك بعد أن أدركت إسرائيل عقم الجهود الديبلوماسية التي بذلتها مع كل من الولايات المتحدة وروسيا من أجل وقف شحنات الأسلحة النوعية لـ «حزب الله»، والحؤول دون بناء قواعد إيرانية عسكرية في المناطق المحيطة بدمشق، وخصوصاً تلك القريبة من خط الفصل في الجولان حيث تطالب إسرائيل بضرورة ابتعاد أي وجود عسكري إيراني من الجولان مسافة خمسين كيلومتراً.

بدأت المرحلة الجديدة من التدخُّل الإسرائيلي في أيلول (سبتمبر) 2017، حين أغار الطيران الإسرائيلي على منشأة عسكرية سورية قرب بلدة مصياف، تحتوي على مخازن صواريخ أرض– أرض متطوّرة بالإضافة إلى إنتاج أسلحة كيماوية. كان قد سبق الغارة قيام وفد إسرائيلي برئاسة يوسي كوهين رئيس جهاز «الموساد» إلى واشنطن، وزيارة بنيامين نتانياهو لبوتين في مدينة سوتشي من أجل التعبير عن هواجس إسرائيل من الوجود الإيراني في المنطقة التي جرى التوافق الأميركي- الروسي على جعلها منطقة «خفض توتر» في جنوبي دمشق.

تكرّرت العمليات الإسرائيلية التي تستهدف الوجود الإيراني في أيلول حين استهدفت مخازن أسلحة قرب مطار دمشق، كما استهدفت في كانون الأول (ديسمبر) موقعاً للأبحاث العلمية ومخازن تحتوي على صواريخ عائدة للنظام ولإيران وحلفائها.

وكان نتانياهو كرّر تهديداته بالقول إن «إسرائيل ستتدخل في سورية، في كل مرة تجد فيها ضرورة لإبعاد إيران وحلفائها عن حدودها». وعاد نتانياهو إلى تكرار التهديد بعد أن شنّت القوات الإسرائيلية هجوماً بالطائرات والصواريخ ضد موقع عسكري في «القطيفة» شمال شرقي دمشق، يحتوي على مخازن أسلحة للنظام ولحلفاء إيران. ويبدو أن هذه الهجمات الإسرائيلية مرشّحة لتشهد المزيد من التصعيد في ظل تصاعد الاتهامات الإسرائيلية لإيران باستغلال دورها في دعم النظام السوري من أجل إرسال المزيد من وحدات الحرس الثوري إلى سورية، وبناء عدد من المنشآت العسكرية في جنوب العاصمة، ونشر جزء من قوات «حزب الله» والميليشيات الموالية لها في مواقع قريبة من خط الجولان.

على رغم الأهمية التي يعلّقها نتانياهو على مواجهة التحرُّكات الشعبية في القدس والضفة الغربية والنشاطات العسكرية على حدود قطاع غزة التي بدأت ضمن إطار ردود الفعل على قرار الرئيس ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل، فإن العمليات العسكرية الإسرائيلية داخل سورية تؤشّر إلى مدى اهتمامه وتركيزه على مواجهة تنامي التواجد العسكري الإيراني هناك. ويرى نتانياهو أن سورية تشكّل نقطة المركز في المشروع الإيراني الإقليمي الممتد من الخليج إلى الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط.

صحيح أن الوجود الإيراني في سورية يعود إلى بداية الأزمة عام 2011، لكن الجديد والخطر (من وجهة النظر الإسرائيلية) يتمثل بسعي إيران الحثيث لإقامة جبهة ثالثة مع إسرائيل إلى جانب جبهتي جنوب لبنان وغزة، من خلال إقامة قواعد عسكرية دائمة، ونشر وحدات الحرس الثوري الإيراني ومجموعات من «حزب الله» والميليشيات الموالية الأخرى في مناطق قريبة من خط الفصل في الجولان. إذا نجحت إيران في تحقيق هذا الانتشار العسكري في المنطقة الجنوبية وعلى سفوح جبل الشيخ بعد طرد الثوار من منطقة «بيت جن» فإن إسرائيل ستجد نفسها معرّضة لمواجهة تهديدات أمنية واسعة على أربع جبهات مختلفة: الأولى، على طول الحدود اللبنانية، حيث تنتشر ميليشيات «حزب الله» المدعومة من الحرس الثوري. الثانية، على طول الحدود مع غزة حيث تنتشر قوى «حماس» و «الجهاد الإسلامي»، والتي تدعمها إيران بالسلاح والمال. الثالثة، على طول خط الفصل في الجولان، والتي يمكن أن تصبح جبهة مواجهة مباشرة بين إسرائيل ووحدات الحرس الثوري، المدعومة من ميليشيات حليفة. يضاف إلى هذه الجبهات الثلاث المواجهات الشعبية التي يقودها الفلسطينيون في الضفة والقدس، والتي تعبّر عن غضب من القرار الأميركي بشأن الاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل، والذي يعتبر بمثابة رمي الزيت على النار في ظل الظروف المعقّدة والمتفجّرة التي تشهدها المنطقة.

يعلّق نتانياهو بعد فشله في إقناع الرئيس ترامب بإلغاء الاتفاق النووي مع إيران، أهمية خاصة على دفع الولايات المتحدة إلى استراتيجية فاعلة لاحتواء التمدُّد الإيراني في المنطقة، خصوصا في سورية ولبنان والعراق وغزة. وتعبّر القيادات العسكرية الإسرائيلية عن هواجسها من حصول تحرّكات عسكرية من عدة جبهات، إذا ما تطور الوضع إلى مواجهة عسكرية مع «حماس» في غزة. وتعكس هذه الهواجس الجهود العسكرية والديبلوماسية التي تبذلها إسرائيل لمنع إيران من إقامة قواعد عسكرية ونشر قوات الحرس الثوري جنوبي دمشق أو على مقربة من الجولان.

في الوقت الذي شارفت فيه الحرب ضد الدولة الإسلامية على نهايتها في العراق وسورية، ركّزت إيران جهودها على تقوية وجودها العسكري من خلال نشر قوات الحرس الثوري المجهّزة بقوة صاروخية قصيرة ومتوسطة المدى، من دون أي ممانعة أو اعتراض من نظام بشار الأسد، والذي بات ينظر إلى الوجود العسكري الإيراني كضمانة أساسية لبقائه في السلطة.

تتفهّم كل من واشنطن وموسكو الهواجس الإسرائيلية من تنامي الوجود العسكري الإيراني في سورية، من دون أن يبادر أي منهما إلى اعتماد استراتيجية عملية للحد من هذا الانتشار الذي بات يهدد بتطويق إسرائيل من ثلاث جبهات، وذلك لاعتبارات خاصة بكل منهما. تشكّل إيران بالنسبة إلى روسيا حليفاً أساسياً في عمليتي الحرب والسلام في سورية، ويشعر بوتين بأهمية الحفاظ على إيران كشريك أساسي في محادثات «آستانة» وفي المؤتمر المنوي افتتاحه في سوتشي في أواخر الشهر الجاري، من أجل طرح إطار حل سياسي للأزمة السورية، بينما يتحدّث الرئيس ترامب في استراتيجيته الجديدة عن ضرورة احتواء النفوذ الإيراني في المنطقة، في الوقت الذي يذهب فيه وزير دفاعه إلى توضيح هذه المقاربة بأنها ديبلوماسية وليست عسكرية.

تدرك إسرائيل أخطار الخطة الإيرانية الهادفة إلى تطويقها باستكمال انتشار قواتها على مقربة من جبهة الجولان، ومع حرص نتانياهو لبذل كل الجهود ديبلوماسياً وعسكرياً للحؤول دون استكمال هذا الطوق، فإن همّه يبقى منصبّاً على تفادي حصول حرب تشمل الجبهات الثلاث، مع احتمال إطلاق ألف صاروخ يومياً على إسرائيل وبالتالي شل الحياة والاقتصاد الإسرائيلي لفترة قد تمتد ثلاثة أشهر.

في ظل التباعد الأميركي- الروسي في البحث عن حل سياسي للأزمة السورية، لا يبدو أن هناك إمكاناً في المستقبل المنظور لحدوث أي تغيير أساسي في استراتيجية كل من واشنطن وموسكو تجاه إيران، سواء في سورية أو المنطقة. من هنا، فإن على إسرائيل أن تستمر في مقاربتها الديبلوماسية مع موسكو وواشنطن لاحتواء مستوى التوتر مع إيران من دون التخلي عن عملياتها العسكرية المتواصلة لاحتواء التمدُّد الإيراني باتجاه الجولان.

في النهاية، إن ما يقرر مدى جدّية نتانياهو في احتواء الخطر الإيراني، وتجنُّب مواجهة حرب واسعة ومدمّرة يجب أن لا يقتصر على جهوده العسكرية والديبلوماسية باتجاه موسكو وواشنطن بل يجب أن يشمل الانفتاح على الدول العربية الأساسية كالسعودية ومصر والمغرب والأردن، من خلال العودة إلى طاولة المفاوضات مع الفلسطينيين، وأن الخطوة الأولى على هذا الطريق تبدأ بتجميد عمليات الاستيطان ووقف تهويد مدينة القدس.