نديم قطيش

الكثير من اتفاق الطائف هوى مع رفيق الحريري، حين اغتيل قبل 13 عاماً. حُكم لبنان خلال هذه الحقبة، ولا يزال، بمنطقٍ يتحايل على حقيقتين.

حقيقة أولى تفيد بأن أي تعديل دستوري أساسي في لبنان، يطال توازنات الشراكة داخل النظام السياسي، دونه أهوال كثيرة. وهو ما ذكّر به رئيس مجلس النواب نبيه بري مراراً خلال الأشهر الماضية، مستعيداً الأكثر سواداً من كوابيس الحرب الأهلية اللبنانية وأعداد ضحاياها.

وحقيقة ثانية مفادها أن أي مقاربة تغلبية ما نجحت في فرض غلبتها، حيال أي من الملفات، إلا بقوة السلاح المباشر أو بتوظيف وهجه لترهيب الآخرين وإخضاعهم.

اتخذ هذا التحايل أشكالاً لا حصر لها، تتمحور كلها حول رغبة الشيعية السياسية في لبنان، في تعديل ميزان الشراكة، والاستحواذ على حق الفيتو داخل السلطة التنفيذية، والإمساك بمصيرها ومصير ميثاقيتها وشرعيتها التوافقية، عبر التلويح الدائم بالخروج منها متى أرادت، وتعطيل البلاد وإقفال المؤسسات.

على هذا المنوال مثلاً خرج الوزراء الشيعة من حكومة الرئيس فؤاد السنيورة الأولى، المتشكلة بعد انتخابات عام 2005، نازعين عنها صفتها الميثاقية بزعمهم؛ وذلك على أثر الخلاف حول تشكيل محكمة خاصة، دولية تنظر في قضية اغتيال الحريري ورفاقه، والجرائم المرتبطة. صحيح أن الميثاقية اللبنانية تقوم على تمثيل الشراكة بين المسلمين والمسيحيين، من دون الدخول في التفاصيل المذهبية لأي من أتباع الديانتين، لكن الشيعية السياسية استخدمت هذا العنوان للقول إن الميثاقية ليست في الشراكة بين أبناء الديانات، بل بين مذاهبها؛ ما يعني أن غياب شيعة حركة أمل و«حزب الله» عن الحكومة يفقدها ميثاقيتها، ويمهد بالطعن في كل ما تتخذه من قرارات.

وأقفل بري بعدها المجلس النيابي عامي 2007 و2008 في مواجهة التوازن السياسي الذي يصب في صالح خصومه، بعد انتهاء ولاية رئيس الجمهورية إميل لحود وتحول المجلس قانوناً إلى هيئة ناخبة لا وظيفة لها إلا انتخاب الرئيس، الذي لم ينتخب إلا بعد انقلاب السابع من مايو (أيار) 2008.

استمرت الحكومة، حتى الانقلاب، عبر صمود أسطوري لرئيسها فؤاد السنيورة، وفي غياب قدرة الثنائي الشيعي على إفقادها النِصاب نتيجة عدم استحواذه على ثلث مقاعدها الوزارية. بعدها، وفي أثر هذا الدرس العملي، ستدخل إلى لغة الشراكة السياسية في لبنان عبارات «الثلث الضامن» أو «الثلث المعطل» بأشكال لا حصر لها، وستدوّن هذه العبارة في اتفاق الدوحة، عام 2008، الذي أنهى احتلال «حزب الله» وحركة أمل لوسط العاصمة بيروت، في سياق المواجهة مع حكومة السنيورة، وبعد إقدام «حزب الله» على استخدام سلاحه مباشرة ضد اللبنانيين العزل في العاصمة وجبل لبنان الدرزي. من المفيد التذكر أن السلاح استخدم في مواجهة قرارين حكوميين لم يكن بوسع الثنائي الشيعي تعطيلهما بالسياسة، أكان خارج الحكومة أم داخلها.

اليوم، يخوض الثنائي معركة تعديل اتفاق الشراكة السياسية من خلال ما يسميه «توقيع وزير المال على المراسيم»، وإسناد حقيبة المالية للشيعة. النقاش المندلع في البلاد على خلفية توقيع وزير المال على المراسيم، كشف عن تفسيرات لوظيفة هذا الوزير وصلاحياته تتصل بالمعركة الأساس، أي معركة تجاوز اتفاق الطائف إلى ترتيبات جديدة تعطي الشيعة حق فيتو داخل السلطة التنفيذية. فحتى لو سلمنا جدلاً بوجوب توقيع وزير المال على المراسيم إلى جانب توقيعي رئيسي الحكومة والجمهورية والوزير المختص بموضوع المرسوم؛ فهذا لا يلغي أن توقيع وزير المال هو خطوة إجرائية شبه شكلية لا تعطي الوزير سلطة قرار الإنفاق أو عدمه خارج شؤون وزارته، حيث إن الإنفاق العام محدد في الموازنات والاعتمادات التي أقرتها الحكومة ووافق عليها البرلمان.

ما يريده الثنائي الشيعي يتجاوز هذا الفهم. ففي واحد من الاشتباكات السياسية، وبسبب نقل مدير عام قوى الأمن الداخلي لضابط شيعي من منصب إلى آخر، في إطار مناقلات كلاسيكية يجريها الجهاز، من دون مراجعة زعيم طائفته، امتنع وزير المال الشيعي عن تحويل مخصصات الجهاز. وظلت المخصصات رهينة عند وزير المال إلى أن حلت مسألة المناقلات وفق تصور المرجعية الشيعية للحل.

ما نحن بإزائه يتجاوز الدعوة إلى تخصيص وزارة لطائفة بعينها إنما يصل إلى اختراع ترتيبات قانونية وسياسية، تعيد تفسير موقع وزارة المال داخل النظام السياسي وتحويلها إلى سلطة فيتو ورئاسة ثالثة إلى جانب رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، أمام امتناع تعديل الدستور في هذا الاتجاه، وأمام استحالة التوظيف الدائم للسلاح لفرض الغلبة.

إننا في الواقع بإزاء نظام سياسي تتآكل شرعيته منذ عام 2005، وتزداد استفحالاً في ظل ضعف الإجماعات الوطنية الرئيسية التي تسند أي ديمقراطية توافقية، كما في ظل غياب إدارة خارجية تتوسط لفض النزاعات بين المتخاصمين كما كان الحال مع الوصاية السورية.

يقول عالم الاجتماع السياسي الأميركي سيمور ليبسيت: إن «فكرة الشرعية تنطوي على قدرة النظام السياسي على توليد الاعتقاد، وضمان استمراره، بأن المؤسسات السياسية القائمة هي إما الأنسب أو مناسبة للمجتمع».
في لبنان ثمة من يقول إن هذه القدرة عن نظام الطائف انعدمت!