كرم الحلو

 من باب التبسيط المخل اعتبار الحراك الطائفي الذي عصف بلبنان الأسبوع الماضي مجرد هبّة فئوية إثر تسريب شتيمة وجهها الوزير جبران باسيل إلى رئيس المجلس النيابي نبيه بري. ما حصل أبعد من أن يؤطّر في هذا السياق البريء من خلفيات التاريخ والسياسة اللبنانيين، والتي شكلت على مدى القرنين الماضيين الأسس والأسباب والمنطلقات للحركات السياسية والأهلية في لبنان. ثمة واقع تاريخي معهود جثم دائماً وراء تلك الحركات ظل يكرر نفسه وفق آلية باتت مكشوفة منذ أواسط القرن التاسع عشر إلى الآن، تتمثّل في يقظة العصبيات الطائفية كلما بدا ستاتيكو الطائفي القائم مهدداً أو آيلاً إلى السقوط والاستبدال بستاتيكو جديد يحمل هو الآخر جميع عوامل سقوطه وفنائه، مؤكداً هشاشة جميع العهود والمواثيق التي لطالما انعقد عليها رهان السلم الأهلي والأمن المجتمعي اللبنانيين.

لا يختلف مآل الحوادث الأخيرة وسيناريواتها عن المآل المعروف والسيناريوات المألوفة منذ القرن التاسع عشر، خصوصًا منذ النصف الثاني من القرن الماضي، من فتنة 1958 إلى حرب 1975 الأهلية إلى الإشكالات المتمادية في العقدين الأولين من هذا القرن لجهة تشكيل الحكومات وانتخاب الرؤساء وما رافقهما من عقد واستعصاءات غالباً ما اقتضى حلها تدخل دول شقيقة أو صديقة. أما الإشكال المركزي وراء تلك الإشكالات والسجالات كلها فيتحدد في رأينا بأن الدولة اللبنانية لم تقم حتى الآن على عقد مدني بين أفراد المجتمع اللبناني، ولم يكن هناك اتفاق بين اللبنانيين بصفتهم «مواطنين» على أي تصور جامع، قومي أو وطني أو أيديولوجي. فانتماء لبنان العربي أو الإسلامي مسألة خلافية، غالباً ما تم حسمها بالمجاملة، وطرح تصور علماني للبنان لم يخرج من إطار النخب المثقفة، فيما هو مرفوض رفضاً تاماً من أباطرة الطوائف، ولبنان كوطن لكل اللبنانيين، لا بوصفه غيتوات طائفية متربصاً بعضها ببعض، لا يزال من الأحلام النهضوية المتقادمة والمجهضة، ولبنان العدالة الاقتصادية والاجتماعية والطبقية ما برح أمراً بعيد المنال.

المجتمع اللبناني إذاً، هو مجتمع أهلي قوامه جماعات وطوائف تعايشت في ما بينها تعايشاً هشاً على أسس وصيغ تم التوافق عليها في كل مرحلة من مراحل التاريخ اللبناني منذ نظام القائمقاميتين، توافق يحمل من عوامل الانتكاس والانفجار أكثر مما يحمل من عوامل الاستمرار والديمومة، الأمر الذي يؤكد ضحالة التوجه التسووي وعقمه وخلله البنيوي، ويتطلب الخروج على العقل التاريخي الذي يرفده، والمؤمن بإمكانية حل المشكلة اللبنانية بتسويات طائفية، للعمل الجاد والجدي من أجل تأسيس دولة علمانية تمهد لحل الإشكالات المركزية التي تعتور الدولة العتيدة وفي مقدمها إشكال الهوية وإشكال الحداثة الذي يحيلنا من رعايا أمراء طوائف إلى مواطنين يربط بعضهم ببعض وبحكامهم عقد سياسي اجتماعي لا عقد تبعية وإذعان يجعلهم مستعدين للتفريط بسلمهم الأهلي كرمى لأمرائهم. إن دولة التسوية باتت فائتة تستدعي بدائل عصرية ككل ما هو فائت. أليست هذه عبر التاريخ؟ أليس هذا منطقه ومآله؟