FINANCIAL TIMES

 جيليان تيت من دافوس

في أثناء سفري في مترو أنفاق لندن أخيرا، رأيت إعلانا طبيا، كان نصه: "قرارات سليمة صحيا. افعل كل ما يمكنك عمله لمتابعة حالة جسدك"، بجانب صورة لهاتف ذكي يعرض نتائج "ألف ومائتي اختبار دم سهلة الاستخدام وفحوص صحية".


في بعض الجوانب، هذا أمر عادي، فشهر شباط (فبراير) الجاري، تماما عندما تبدأ قرارات العام الجديد للمستهلكين في الزوال، لربما هو الوقت المناسب لبيع الأجهزة الخاصة بالصحة، وقد أصبحت الأدوات مثل فيتبيتس وجوبونز مألوفة إلى حد كبير.


إلا أنه على صعيد آخر، يثير هذا الإعلان أيضا قضية يتعين على معظمنا أخذها بعين الاعتبار. قبل بضعة أسابيع، أجريت مقابلة في المنتدى الاقتصادي العالمي المنعقد في دافوس مع يوفال نواه هاراري، المؤرخ ومؤلف الكتابين الأكثر مبيعا، "الإنسان العاقل" و"الإنسان المقدس"، اللذين يقدمان لمحات عامة شاملة عن تاريخ البشرية ومستقبلها المحتمل. 
كان اللقاء جيدا: فهاراري يمتلك عقلا شرسا، وأفكاره كانت مؤثرة جدا، ليس فقط على الجمهور الواسع، بل أيضا بين زعماء العالم. كان هذا واضحا إلى درجة كبيرة، حيث إنه حين كنا ننتظر في الغرفة الخضراء في دافوس قبل المقابلة، حرصت المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، على تحية هاراري، ومن الواضح أنها قرأت كتبه أيضا. 
ربما تكون أعمال هاراري مرصودة من قبل ميركل (وآخرين غيرها)، لكن الرسالة التي يحاول إيصالها ليست مطمئنة ولو من بعيد. 
بل على العكس من ذلك، كما قال أمام النخبة المشاركة في دافوس، من رأيه أن ظهور ذلك النوع من أجهزة التعقب الطبية التي رأيتُ إعلاناتها، ما هو إلا علامة ضئيلة على ثورة الإنترنت المذهلة التي يمكن أن تتسبب في تفجير أفكارنا الغربية، المتعلقة بالكيفية التي يفترض أن تعمل بها الديمقراطية.
في السنوات الأخيرة، أصبحنا أكثر دراية بالفكرة التي مفادها أن البيانات المتعلقة بمواردنا المالية، وتسوقنا وعادات التصفح لدينا تطوف في الفضاء الإلكتروني. 
بشكل متأخر، بدأنا أيضا في إيلاء المزيد من الاهتمام في الجهات المسؤولة عن السيطرة على هذه البيانات. 
في منتدى دافوس لهذا العام، كانت هنالك حوارات ساخنة حول الدور المهيمن لشركات مثل فيسبوك وجوجل وعلي بابا، ناهيك عن الحكومتين الأمريكية والصينية. كما أثارت ميركل أيضا هذا الموضوع في خطابها.
بالنسبة إلى هاراري القضية الكبيرة حقا هي ما سيحدث عندما تبدأ أجهزة الحاسوب في تعقب ليس رسائلنا الإلكترونية ورسائلنا النصية وأموالنا فحسب، بل أجسادنا أيضا. 
قال هاراري أمام الحضور في دافوس: "عندما تندمج ثورة عالم تكنولوجيا المعلومات مع ثورة التكنولوجيا الحيوية، ستصبح قادرة على اختراق البشر". وواصل كلامه ليجادل بأن "الاختراع الرئيس الذي يجعل الاندماج بين تكنولوجيا المعلومات والتكنولوجيا الحيوية ممكنا هو جهاز الاستشعار البيولوجي (الذي يمكنه قراءة بصمات الأصابع، على سبيل المثال)، وأنه نظرا لتوافر ما يكفي من المعلومات وما يكفي من القوة الحاسوبية، تستطيع الأنظمة الخارجية اختراق جميع مشاعرنا وقراراتنا وآرائنا".
يبدو هذا أمرا بعيد المنال تماما الآن - فهذه الأدوات المتعلقة باللياقة البدنية ليست ذكية إلى هذا الحد ولو من بعيد، إلا أن التكنولوجيا آخذة في التحسن بشكل سريع جدا، حتى أن هاراري يعتقد أن أجهزة الكمبيوتر سوف "تتمكن في نهاية المطاف من تمييزي والتعرف إلي بشكل أفضل مما أعرفه عن نفسي"، على اعتبار أن "البشر غالبا لا يعرفون أنفسهم بشكل جيد".
في بعض الجوانب، قد يكون هذا أمرا رائعا: إذ تستطيع بيانات القياسات الحيوية توفير رعاية طبية شخصية، ومساعدتنا جميعا على أن نصبح في صحة أفضل وأكثر حكمة في التعامل مع أجسادنا. 
من جهة أخرى قد تكون أيضا مخيفة، بحيث تقضي على أي مفهوم يتعلق بالخصوصية. يقول هاراري إنه كان في سن الحادية والعشرين عندما أدرك أخيرا أنه شخص غير سوي، "بعد سنوات عدة من العيش في حالة إنكار"، لكنه يتخيل مستقبلا أنه حتى لو كان هناك شخص مراهق يعيش حالة من الإنكار بخصوص حياته الجنسية، لأن الخوارزميات المستندة إلى التكنولوجيا الحيوية تعني أنه لا يمكنها إخفاء تلك الحقيقة عن أي من شركات أمازون أو علي بابا، الشرطة السرية في الغد. 


هذه هي المشكلة الأكبر - القوة الكبيرة الممنوحة لأية جهة مخولة بالسيطرة على مثل هذه البيانات. في الوقت الراهن، لا يفكر معظم المستهلكين بشكل عميق جدا في هذا الأمر، حيث يغلب عليهم بشكل غامض الافتراض بأنهم سيتمكنون من السيطرة على المعلومات وهذا الأمر، في النهاية، هو الرسالة الضمنية الموجودة في الإعلانات المتعلقة بأدوات اللياقة. وهذا الافتراض قد يتبين بأنه صحيح في النهاية. 
لا تراهن على ذلك، في عالم حيث الحكومات وشركات التكنولوجيا تتمتع بقوة هائلة منذ الآن. يتوقع هاراري أنه إذا استمرت الاتجاهات الحالية دون ضبط، فإن العالم ربما ينزلق بهدوء نحو مستقبل من "دكتاتوريات البيانات"، في الوقت الذي تحاول فيه أجهزة الدولة أو المؤسسات الخاصة، استخدام قدرتها على الوصول إلى بياناتنا لممارسة السيطرة. 
لا يتوقع هاراري أن تظهر دكتاتوريات البيانات المذكورة خلال العقود القليلة المقبلة. بالتالي هنالك متسع من الوقت أمام صناع السياسة للبدء في وضع حلول لكبح جماح المسار الذي يتحدث عنه. 
المشاكل بدأت في الحدوث منذ الآن: في الأسبوع الماضي، تبين أن البيانات الواردة من أجهزة الحفاظ على اللياقة البدنية - التي نشرتها سترافا، "شبكة اجتماعية خاصة بالرياضيين"، كجزء من الخريطة العالمية الخاصة بأنشطة مستخدميها – يمكن أن تكشف عن مواقع القواعد العسكرية الأمريكية. 
وبعد الاستماع إلى الحوارات المنعقدة في دافوس، يبدو أنه لم تتشكل بعد لدى السياسيين - ولا هاراري فيما يخص هذه القضية - فكرة واضحة حول كيفية التعامل مع تلك القضايا.
ثمة أمر واحد واضح: من المستبعد أن يتمكن أي شخص من إعادة هذا المارد إلى القمقم والتخلص من تلك الأجهزة - ولا سيما في ضوء المنافع الصحية المحتملة بشكل مذهل، التي يمكن للطب الرقمي تقديمها. 
ومن الغالب أيضا، أن يكون الابتكار سيفا ذا حدين. أفضل النعم الإيجابية لدينا تنطوي أيضا على لعنات خطيرة - ولن تكون أبدا أكثر مما هي عليه حين نضفي عليها الصفة الثقافية بوصفها "أنها مفيدة".