طيب تيزيني

ربما يكون التساؤل حول مصير مشروع الإصلاح العربي قد عولج مرات كثيرة، وربما سيظل موضعاً للتساؤل دون ملل ولا كلل، لمراحل أخرى مقبلة. أما السؤال: لماذا؟ فيمكن الرد عليه بمواجهة أمرين اثنين.

الأمر الأول يتمثل في أن المسألة التي تمثل موضوع هذا المقال تبقى مفتوحة دائماً، لأنها تشكل نمطاً من المسائل النظرية الاستراتيجية، التي تستدعي من أصحابها أن يتفقدوها دائماً، تقدماً أو تراجعاً، على المستوى الواقعي والنظري؛ وهذا أمر مفهوم بذاته.

أما الأمر الثاني، فيقدم نفسه من الموقع النظري المنهجي؛ إذ أن المنهج المستخدم في هذه الحال إنما هو منهج يتأسس على مفهوم التغير والتجاوز نفسه. فالموضوع هنا يحمل صفة الجدلية التجاوزية، أي الجدلية التاريخية.

وإذا ما تابعنا الموقف الحياتي إلى الحقل التأسيسي، فسنلاحظ أن الأمر يأخذ صيغة إشكالية، خصوصاً أن البشر الذين تلقفوا النص إنما هم بشر يتفقون ويختلفون؛ بل ويتقاتلون. وهذا يعني أن الأمر كان مفتوحاً في المسائل الدنيوية بكيفية واضحة دون أن ينتفي ذلك حتى من النصوص التأسيسية التي كانت تحتاج مثلاً لإيضاحها. من هنا، كان ضرورياً إنجاز تلك الخطوة التدقيقية، حتى يغدو الموقف من التفسير والتغيير والنسخ دقيقاً، فذلك مهم بالاعتبار المعرفي التأسيسي، كي يتمكن الباحث من استخدام الشواهد والأمثلة اللازمة أثناء البحث ضمن حقوله التي نصنفها ونوزعها على أقسام «المشروع الإسلامي» عموماً.

وهنا فإننا ننظر إلى المشروع الإصلاحي عموماً من زوايا أربع هي السياسية والمجتمعية والاقتصادية والثقافية، ومعها الدينية. مع العلم أن الزاوية الأولى للمشروع الإصلاحي العربي، وهي الزاوية السياسية، أصبحت خلافية أكثر من أي وقت مضى في ظل التطورات التي عرفتها بعض البلدان العربية خلال الأعوام الأخيرة.

لقد جاء القرن العشرون ليكرس تبعية معظم البلاد العربية للغرب، مبيناً إخفاق المشروع النهضوي العربي، وهذا ما سيتحول إلى إخفاق للعلم العربي في معظم كتله وطاقاته الفاعلة.

فعلى الصعيد العربي عموماً سنسجل دخول الحركة الثقافية في حالات من العجز عن الفعل، إضافة إلى ظهور حالات فظيعة من الطائفية بأقسى حالاتها، جنباً إلى جنب مع دخول بلدان عربية في أتون صراعات متلاحقة، ومع تعاظم البؤس والفقر والحرمان.

إن المشروع العربي سيدخل في أحوال جديدة، لعل أحوال ما قبل الحرب العالمية الثانية لم تبلغ مداها في الانهيار والتفكيك وتصدع أبواب هذا العالم العربي الكبير أمام التدخلات الخارجية على نحو لم يسجل التاريخ مثيلاً له في سابق الأيام. لقد راحت أبواب البلدان العربية تتساقط أمام حروب لعلها تضارع ما أتى من مثيلاتها في سابق الأزمنة والعهود. فمن الغرب إلى الشرق، ومن الشمال إلى الجنوب، أخذ العالم المذكور يسجل أحوالاً غير مسبوقة.

لقد سقطت السياسية، وكُرّست الثقافة في خدمة هويات فرعية، كما ظهرت في الحقل الديني حالات وجهت بنادق أصحابها إلى مفاهيم الإسلام الوسطي والتنويري والتسامحي، لتلفق «إسلاماً تكفيرياً ظلامياً» رافضاً لكل الأديان الأخرى. وهكذا هز «داعش» أبواب العالم يداً بيد مع طائفية وعرقية ونزعة أمنية، ويداً بيد مع حالة الفقر والخوف والخراب والاحتراب.

إنه جانب من مآل المشروع الإصلاحي النهضوي العربي، سياسة وثقافة واقتصاداً وديناً.. جانب ثير التساؤل المتكرر: وماذا تبقى من آمال عصر النهضة العربية ومشروعه الإصلاحي؟