أنقرة

يبدو أن « حقل ظهر» المصرى العملاق لن يكتفى بقلب الموازين فى مجال الطاقة بالمتوسط بل هو فى طريقه إلى أن يحدث زلزالا فى علاقات البلدان الساكنة بشرقه، والتى أغراها الاكتشاف الهائل، فعقدت العزم على البحث فى كل ما تزعم أنه مياهها الإقليمية. ولكن لتداخل الخطوط طولية وعرضية وتشابكها، فالأمر قد ينبئ بمنازعات تشعل المنطقة جدلا لعقود طويلة تالية.
ولأن تركيا هى الأفقر غازا ونفطا، ولعلاقاتها الخاصة بامتداداتها الإثنية فى قبرص، والتى تمتلك شواطئها إجمالا مخزونا وفيرا من الغاز، هنا قررت أن تدافع عن الشطر الشمالى من الجزيرة المقسمة، وهى الموجودة فيه عسكريا منذ أربعة وأربعين عاما عقب غزوها له، وكأنها المتحدثة باسمه بل الوصية عليه، وليبدأ فصل جديد عنوانه الصراع على شرق المتوسط.
فرغم أنه كان فى طائرة عمليات عسكرية ، يتابع جوا وعن كثب تحركات جيشه فى عفرين بالشمال السوري، إلا أن الأمر لم يكن مصادفة فى أن يدلى رئيس الأركان التركى خلوصى أكار، بدلوه فى أزمة يراد لها أن تشتعل بشأن ما تحتويه مياه شرق المتوسط من ثروات، قائلا إن بلاده عازمة على حماية حقوقها ومصالحها المنبثقة من القانون والمعاهدات الدولية فى جميع البحار التركية، فى رد مباشر يستهدف المنطقة الاقتصادية المصرية ـ القبرصية .


وهو بذلك استكمل ما صرح به قرينه الدبلوماسى وزير الخارجية مولود تشاويش أوغلو عندما أعلن أن تركيا تخطط لبدء أعمال البحث قريبا فى تلك المنطقة الحيوية المتخمة بالطاقة وبطبيعة الحال لم ينس أولا تجديد تأكيده عدم قانونية اتفاقية ترسيم الحدود البحرية التى ابرمتها القاهرة مع نيقوسيا قبل 5 سنوات وهو ما يحصنها قانونيا، وثانيا أن يتهم من وصفهم بـ « القبارصة اليونانيين» ، كونه لا يعترف بالجمهورية القبرصية، بالقيام «بشكل أحادى بأنشطة للتنقيب عن النفط والغاز فى تلك المنطقة المتنازع عليها» وثالثا «لا يمكن لأى دولة أجنبية أو شركة أو حتى سفينة إجراء أى أبحاث علمية غير قانونية أو التنقيب عن النفط والغاز فى الجرف القارى لتركيا والمناطق البحرية المتداخلة فيه».
وبالفعل وفى ترجمة سريعة لتصريحى هذين المسئولين البارزين، لم تكد تمر سوى ساعات قليلة، إلا وتمنع بحريته سفينة استأجرتها شركة «إيني» الإيطالية من الوصول إلى منطقة بحث وتنقيب عن الغاز الطبيعى جنوب شرق مدينة لارنكا الساحلية، وذلك بحجة إجراء مناورات، فى استفزاز دفع وزير الخارجية القبرصى ايوانيس كاسوليدس إلى إبلاغ الاتحاد الأوروبى بهذه الخطوة التى وصفها بـ «غير المسئولة».
بالمقابل وفى إطار توزيع الأدوار ، رد شمال الجزيرة الذى يعرف نفسه بـ «جمهورية قبرص الشمالية» والتى لا تعترف بها سوى أنقرة ، بغضب وعلى لسان أحد مسئوليه قائلا إنه لن يتردد فى اتخاذ خطوات مماثلة بالتنسيق مع «الجمهورية التركية الشقيقة » تجاه المساعى المنفردة لـ «قبرص الرومية» فى التنقيب عن النفط والغاز شرقى المتوسط. كونه شريكا فى «ملكية الجزيرة المقسمة، ومن ثم فإن له حقوقا غير قابلة للتصرف فى الموارد الطبيعية المحيطة بها».


وتأسيسا على ذلك قد يتصور البعض أن تلك المشاهدات ربما هى مقدمة لحرب يعد لها نظام الرئيس التركى رجب طيب اردوغان وهذا غير صحيح وليس واردا حيث إن الحاصل الآن يعيد للاذهان أحداثا مماثلة جرت وقائعها فى نهايات عام 2014، حينذاك خرج الادميرال بولينت بستان أوغلو قائد القوات البحرية التركية، بتصريح أثناء مناورة الحوت الارزق فى بحر ايجه، افاد فيه بأن قواته حصلت على تفويض سياسى بالتطبيق الكامل لقواعد الاشتباك التى تم إقرارها فى وقت سابق من العام الماضي، وهو ما يعنى التأهب عسكريا للتعامل مع أى سفينة تراها تركيا قد اقتربت ما تصفه مياهها الإقليمية، وذلك على خلفية مشروعات التنقيب عن النفط والغاز الطبيعي.
ولكن سرعان ما هدأ الصخب التركى دون أن يحدث شيء يذكر ثم يعود مجددا مع بدء المباحثات اليونانية ـ القبرصية ـ الإسرائيلية نهاية يونيو العام قبل الماضي، والتى اتخذت طابعا جديا بعدما تأكد المخزون الواعد من الثروات الطبيعية فى أعماق مياههم. ورغم التصريحات النارية وتحرك بوارج انطلقت من مامرميس جنوب الأناضول، إلا أنها عادت ادراجها لمرافئها. ليس ذلك فحسب بل عكف القائم على صناعة القرار على ايجاد بدائل فوجد من الأفضل له وبعيدا عن أقواله المتشنجة أن يسارع وهذا أولا ويعيد علاقاته مع الدولة العبرية بعد جفاء استمر ست سنوات وهذا ما حدث .


وثانيا زيادة الدعم السياسى لما يصفه «رئيس جمهورية قبرص الشمالية» مصطفى أكنجي، حتى يحتفظ لبلاده بدورها كضامن فى الترتيبات النهائية حال نجحت مفاوضات توحيد الجزيرة، ومن ثم العمل على تجنب خسارة القبارصة الاتراك خاصة أن لديهم استعدادا لذلك، لاعتقادهم أن أنقرة تقف حائلا دون لم شملهم مع أقرانهم اليونانيين فى قبرص العضو بالاتحاد الأوروبي.
ويكفى تراجعه واخفاقه فى الشمال السوري، ولأنه لا يستطيع العودة على أمل تحقيق بعض نصر، فالاستنزاف مستمر وحتى إشعار آخر والداخل غير مكترث بأمواج المتوسط، فعينه على جنوده الذين يتساقطون بالقرب من عفرين.
وهكذا، فشرق المتوسط رغم قربه الشديد صار يبتعد عن الدولة التركية ، وما يقال بشأن قواعد الاشتباك العسكرى، ما هو إلا تهديدات لن تجد طريقا للتنفيذ خصوصا فى ظل الفجوة مع الحلفاء والتى تتسع يوما بعد آخر.