ميسون الدخيل

للرسائل طقوس خاصة بها تصل حد الرومانسية ما بين الروح والحرف، أن تجلس إلى طاولة وتصفّ الأوراق، وتجهّز القلم، ثم تنثر الحبر على ورقة جانبية للتأكد من جاهزيته

كيف وصل بنا الأمر إلى هنا؟ أين أضعنا أجمل ما حملته إلينا الأبجدية؟ نتواصل؟ نعم، لكن بصور، بمقاطع، بمقتطفات ليس فيها شيء مما نمتلك من بديع الكلم! بتنا نخاف الاستفاضة وكأنها انتفاضة ستبعثر مشاعرنا ولا نستطيع أن نعيدها إن هي خرجت، لحظات صدق إن نثرت عادت لتعذب خطواتنا كأشواك حرش حرقته شمس صيف جاف! نرتجف رعبا مما قد يفسره كل متفلسف، كل جاهل، كل مثقف بلا ثقافة! تعابير كانت يوما تجري أنهارا من أسطر ذهبية، تحولت إلى رماد مزيف بلا أصل احترق وبلا فكر اتقد! فرق كبير بين أن تطلق لريشتك العنان لتمرح في مساحات بيضاء وتحولها إلى مرج من قلب الطبيعة لا تعرف أين يبدأ لون وينتهي آخر، وبين أن تحسب الكلمات؛ تجمعها وتطرحها وتقسمها، ثم تضربها فتلتوي تقلصا، ثم تستسلم لسجانها وتستكين ألما!
أين أيام القلم والحبر والدواة والريشة؟ أين أوراق الرسائل المنزوية في درج المكتب، نسحب منها حتى إذا وصلنا إلى آخرها، نسرع إلى أقرب قرطاسية، وننتقي ما بين المسطّر والملوّن والمعطّر، اختلاف يماثل الأيادي التي ستستلم؟ حقا متى كانت آخر مرة جلسنا فيها إلى مكاتبنا وسطّرنا رسالة، أو حتى استلمنا رسالة؟ صندوق البريد الذي كان يوما يحمل الإثارة والفرح أو الحزن والقلق تحول إلى أيقونة مهجورة تلصق في آخر العنوان؛ مجرد زيادة في المعلومات!
اليوم وفي عصر السرعة، عصر التكنولوجيا، اُغتيلت الكلمات، ونُحِر القلم، واحترقت الأوراق! أحرف أصلها رقمي، وأرضها فضاء، وبيتها سحابة! جفاف يتجمل أحيانا برموز وصور! عناوين كنا يوما نحفظها في دفاتر أو قصاصات ورق نخاف عليها من أن تضيع، ونفقد معها سبل الاتصال، أما اليوم بالكاد نحفظ اسم شارع منزلنا، ولماذا نحفظ إن كانت ضغطة زر تغنينا، بل ترشدنا إلى حيث نريد؟! أين الاهتمام، أين الفكر، أين المشاعر والعواطف؟ ابتُلينا بالكسل حتى هجرتنا اليعربية؛ تركتنا لنبتكر طرقا لاختزال التواصل مع العائلة، مع الأصدقاء، مع الأحبة! بأيدينا حرمنا أنفسنا متعة إرسال واستقبال الرسائل!
للرسائل طقوسٌ خاصة بها تصل حد الرومانسية ما بين الروح والحرف، أن تجلس إلى طاولة وتصفّ الأوراق، وتجهز القلم، ثم تنثر الحبر على ورقة جانبية للتأكد من جاهزيته، بعدها تتلمس الورقة بين يديك، تديرها يمنة ويسرة إلى أن تأخذ زاوية يدك وتبدأ.... فتنساب الكلمات من بين أصابعك لا تعلم إن كانت روحك تسكن يدك، أم فكرك يحرك ذاك القلم! ضجيج لذيذ في رأسك لا تريده أن ينتهي، ربما أنين فراق أو نسمات أمل، ربما نزيف قلب، أو تكسر أجنحة، أو حطام أضلع، أو ربما رحيق فكر وعبير علم أو صدى نداء وأدمع ندم... تبدأ ولا تريد أن تنتهي، تود أن تعيش اللانهاية وأنت تعلم أنه بذلك لن تصل إلا إلى النهاية!
هنالك ديمومة للرسائل لكل حرف لكل تعبير لكل معنى... لحظات تدخل التاريخ، وتبقى إلى الأبد، وإلا فكيف تعرفنا إلى شخصيات تاريخية، ودخلنا إلى أعماقها في رحلات قزحية الألوان بعبير يكاد ينساب إلى كل خلية في الجسد، فتتحرك المشاعر وتتفاعل، إنه ماضينا، ماضي الإنسانية، سجلّ نعود إليه لننهل منه ونتعلم ونفهم ونعتبر، هذا ما تركه السابقون لنا، فماذا سنترك نحن للأجيال القادمة؟ خليط من الكلمات والصور (أيقونات) في سحابة سايبرية، عند أول خطأ قد تمحى، تزال أو تضيع إلى الأبد! نحن ببساطة نسينا سحر الكلمة، هجرنا روعة الحوار ما بين العقل والقلم، تحول التواصل إلى تعداد؛ مجرد تعداد للأحرف أو الكلمات، نعصر لنختزل، قد يصل المعنى وقد لا يصل، لا يهم! المهم هنا أننا أدّينا واجبا ثقيلا، لأنه إن لم يكن كذلك سعدنا بقضاء الوقت ونحن نكتب ونعبّر ونسترسل! إن روعة سلسلة من تعابير غزلت بمحبة وفكر وعطاء، خطت على ورق، وأرسلت داخل ظرف لتبدأ رحلة عبر المكان والزمان ونحن لا نعلم إن كانت ستصل أو لا تصل، روعة تترك انطباعا أقوى ألف مرة من كلمات متقاطعة تصل بجزء من الثانية بتأثير ليس أكثر من موجة بحر عابرة!
هجرنا القلم وأصبح لا يستخدم إلا للتوقيع أو التدقيق والتصحيح! ومفكرونا سرقتهم وسائل التواصل الاجتماعي، فأصبح الفكر عندهم مختزلا، والعلم منهم يخرج بالقطّارة؛ عبارة هنا وجملة هناك، ويصفق الجمهور (باللايكات) أو إعادة «التغريد»، هل وصلتهم المعلومة أو فهم المقصد كاملا؟ الله أعلم! المهم أن الجميل تبسم وتكلم! حتى اللقاء الثقافي لا يتابع إلا من القلة، وإن تم فيكون لمقطع مجتزأ من الحوار الكامل، كلٌّ يرسل الجزئية التي تدعم رؤاه عن فكرة طُرحت أو تبيّن زاوية من شخصية الضيف! نتضجر من المقالات الطويلة؛ نريد الزبدة وإن ساحت بعدها عند الصباح!
الرسائل الطويلة كانت يوما بلا أجنحة، ولكنها كانت تطير، عبرت الزمان والمكان حتى وصلت إلينا، واليوم هي قصيرة؛ مسخ بلا روح! تطير نعم، لا بل وتسبح وتحلق في سحابات افتراضية، لأنها مجرد انعكاسات لما نسميه تطورا ونموا وتقدما! لقد اختزلنا كل شيء فيها ولأجلها! ومن يدري فربما في يوم من الأيام، وهو ليس ببعيد، قد تتحول إلى كبسولة تُبلع، أو شريحة إلكترونية تزرع في الدماغ؛ مجهزة بمعلومات مسبقة الإعداد، نختار منها ما نريد، تماما مثل اختيارات أي اختبار موضوعي، وبرمشة عين نرسل ونستريح! لا ورق يُسكن، ولا قلم يَنثر، ولا قلب يَنبض، أو حتى فكر يُصاغ!