محمد آل الشيخ 

غازي القصيبي قامة وطنية رفيعة تكاد أن تلامس السحاب. حاربه الصحويون حربا شعواء، وقالوا فيه ما لم يقله الإمام مالك في الخمر، وتفرغوا لمواجهة وإفشال مشاريعه الوطنية والثقافية الحداثية، وأهمها التنمية البشرية، حينما كان وزيرا للعمل؛ صمد صمود العظماء، ولم يتخل عن قناعاته قيد أنملة، ولم يكترث بما يقولون، وما كانوا يروجون، فكانت أعماله تكبر وتتضخم لتشير إليه، وأقواله، وكتابته، ومحاضراته تنتشر بين الناس ممن لم يتلوثوا بالتأدلج والتحزب الصحوي، وها هو اليوم ينتصر عليهم انتصارا كان بمثابة الضربة القاضية الفاصلة، عندما اعتمدت وزارة التعليم كتابه الشهير والثري بالتجارب التنموية (حياة في الإدارة) ليُدرس ضمن مقررات المرحلة الثانوية، لتكون سيرته، وأفكاره التنموية المتحررة، نبراسا يُضيئ دروب أجيالنا المستقبلية.

يقول الشاعر:

تضيق قبور الميتين بمن بها

وفي كل يوم أنت في القبر تكبرُ

غازي كان مختلفا، وكان يمتلك من الرؤى واتساع الأفق وقبل كل ذلك الوطنية، ما لا تجده في الآخرين ممن تولوا مناصب عليا حكومية، غير أنهم مروا على بلادنا مرور الكرام، أما غازي فقد كان من أولئك الرجال الذين لا يجود بهم الزمن إلا لُماما، ومثل هؤلاء يبقون وتبقى أعمالهم ومقولاتهم وسيرهم العطرة، وإن غابت أجسادهم.

لم يحارب أساطين الصحوة القميئة عَلَماً وطنيا مثلما حاربوا غازي، وقد حفظ لنا التاريخ جزءاً من هذه المواجهات، لعل أهمها مؤلف (حتى لا تكون فتنة)، وكان الصحويون حينئذ، يملكون من السلطة والسطوة والنفوذ و(الشعبوية) ما يُخيف الجهابذة الأبطال، غير أنه تصدى لهم بالكلمة، و واجه حججهم بالحجة، موظفا اطلاعه وثقافته الغنية، فضلا عن جمال أسلوبه، في مواجهتهم، ومواجهة ديماغوجيتهم، فقد كان مقتنعا منذ البدء بالمقولة الشائعة : (لا يصح إلا الصحيح)، وهانحن اليوم، وبعد أن انتقل هذا العلم الوطني البارز إلى رحمة الله، نجد ما كان ينافح عنه بلسانه وقلمه وشعره أنه (الصحيح) الذي انتصر انتصارا كاسحا في هذا العهد السلماني الزاهر.

كثيرون ربما في قرارة أنفسهم كانوا يوافقون ماكان يقوله غازي، لكن الجرأة والشجاعة والإقدام هو ما يُميز من خلدهم التاريخ، وكان غازي بحق واحدا منهم.

النقطة الثانية التي أود أن أشير إليها هنا، أن غازي كان عندما كتب، وحاضر، وعمل، لم يكن يخاطب المعاصرين له فحسب، وإنما كان يخاطب أجيال المستقبل، فكتاب (حياة في الإدارة) هذا، وغيره من الكتب والدواوين كتبها ليستفيد منها المستقبليون وليس فقط معاصريه، وروى فيه من الروايات الواقعية التي اكتنفت مسيرة إصلاحه، وكيف تعامل معها، وانتصر في أغلبها، ما يصلح أن يكون تاريخا لمسيرة الإدارة في المملكة، وها هو كتابه بعد وفاته، يعود للحياة، ليدرسه الدارسون، ويتعلم منه الطلاب، ليثري ثقافتهم بتجارب أسلافهم وسيرهم الحياتية؛ وبهذه المناسبة أشير إلى نقطة غاية في الأهمية، لم يولها كثير من الوزراء والمسؤولين عنايتهم، وهي المتعلقة بكتابة السير والمذكرات والتجارب، فالوطن اليوم وغدا وبعد غدا في حاجة ماسة ودائمة لمثل هذه التجارب الإدارية، لتشكل لدينا مخزونا متراكما من الخبرات، يستطيع أن يأتي بعدهم من يقرأها ليستفيد منها ويبني عليها؛ فمثلما كان الشعر - كما يقول القدماء - ديوان العرب، فإن الحياة المدنية اليوم جعلت كتابة (السير والتجارب الحياتية) هي تاريخ الدول المدنية، وكلي أمل في كبار المسؤولين الذين لا يزالون على قيد الحياة أن يدونوا سيرهم وتجاربهم ونجاحاتهم واخفاقاتهم بإيديهم لأنها ليست ملكا لهم، وإنما ملكا لوطنهم وتاريخ وطنهم.

إلى اللقاء