عبدالوهاب بدرخان

 في مطلع السنة الثامنة من الأزمة السورية لم يعد الصراع المسلّح بين النظام والمعارضة. أصبح بين الدول المتدخّلة التي استطاعت كلٌّ منها انتزاع قطعة من خريطة سورية، سواء بموافقة نظام بشار الأسد أو بحكم الضرورة التي شكّلتها «الحرب على داعش». وبعدما لعبت ورقة «الإرهاب» لمصلحة الأسد والإيرانيين خلال الأعوام الأخيرة لعلّهم يلمسون الآن صعوبة الحفاظ على مكاسبهم منها. فلو بقيت اللعبة حكراً على روسيا وإيران والنظام لأمكن تغليب منطق مَن ينتصر عسكرياً ينتصر سياسياً، أمّا وقد تعدّدت الأطراف فإن استعادة السيطرة الكاملة باتت مستبعدة، إذ لا عودة للنظام إلى الشمال الذي استحوذ عليه الأميركيون بواسطة الأكراد واستحصل الأتراك على رقعة منه، ولا عودة إلى الجنوب الذي يتشارك الأميركيون والأردنيون والإسرائيليون الإشراف عليه، فيما يتقاسم الروس والإيرانيون والنظام وسط البلاد لكن بوضعية صراعية ومرتبكة.

إذا لم تكن هذه أولى ملامح التقسيم أو تقاسم النفوذ - بـ «التوافق» الضمني الموقّت- فلا بدّ أنها خطوط المواجهات المحتملة على طريق التقاسم الدائم. توحي الدول الغربية، خصوصاً الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، بتشاورها الهاتفي شبه اليومي، بأنها في صدد بلورة ضربة أو ضربات عسكرية كردٍّ على استمرار النظام في استخدام السلاح الكيماوي، بشرط «توفّر الأدلة». لكنها موجودة فعلاً، غير أن جهاز النفي الروسي جاهز لإنكارها ولإحباط أي «شرعية دولية» لأي رد غربي. هذه الدول تحتاج إلى تقدير مسبق لأمرين: أي تغيير يمكن أن تُحدثه الضربة، وما الخطوة التالية بعده؟

في السابع من نيسان (أبريل) 2017 انهالت صواريخ أميركية على مطار الشعيرات شرقي حمص ردّاً على قصف بغاز السارين ومقتل عشرات المدنيين في خان شيخون (إدلب)، وبعد خمسة أيام حطّت طائرة وزير الخارجية الأميركي في موسكو بحثاً عن تفاهمات، أهمها أن تضمن القيادة الروسية ممارسات النظام وعدم تكرار استخدام السلاح الكيماوي. لم ينضبط النظام، ولم يلتزم الروس، بل يشاركونه (مع الإيرانيين) حربه على الغوطة الشرقية ويتجاهلون استخدامه غاز الكلورين، وأضافت إليه طائراتهم قصفاً منهجياً بقنابل النابالم، فيما استخدم عملاؤهم غازاً جديداً لقتل استخباري منشق في ساليزبري (بريطانيا). أصبحت روسيا نفسها موضع إدانة، خصوصاً بعدما اتهمها تقرير للأمم المتحدة بـ «ما يرقى إلى جريمة حرب» حين استهدفت المدنيين في الأتارب (غربي حلب) في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي. لكن هذه مجرد واقعة أمكن التحقيق فيها، في حين بقيت عشرات جرائم الحرب الروسية بلا أي مساءلة. لذلك «يرقى» سكوت المجتمع الدولي عنها إلى مستوى «التواطؤ مع الجريمة».

عدا تأكيد مصادر عدة أن سيناريوات لضربات عسكرية وضعت على مكتب دونالد ترامب، يستمر تداول سيناريوات لحرب إسرائيلية أو لضربات للمواقع الإيرانية بالقرب من الجولان وفي مناطق سورية مختلفة حول دمشق ونواحي تدمر وحلب. ولم يتردّد ترامب وبنيامين نتانياهو، خلال لقائهما الأخير في البيت الأبيض، في إبداء توافقهما في شأن هذه الحرب. وجاء قول ضباط أميركيون وإسرائيليون أن مناوراتهم المشتركة الجارية حالياً تظهر استعدادهم «لمواجهة أي تهديدات ناشئة في الشرق الأوسط» ليؤكّد معلومات سابقة أبلغت إلى الروس والنظام السوري بأن واشنطن ستدعم إسرائيل في أي مواجهة مع الإيرانيين. ولمزيد من التوضيح قال قائد القوات الجوية الإسرائيلية الجنرال زفيكا حاييموفيتش «يمكننا استدعاء القوات الأميركية في أي نزاع مستقبلي إذا اقتضت الحاجة»، فيما أكّد قائد القوات الأميركية في المناورات الجنرال ريتشارد كلارك: «سنكون جاهزين، وكبار قادتنا سيلتزمون في حال طلبت الحكومة الإسرائيلية».

كادت الغارات الإسرائيلية صباح العاشر من شباط (فبراير) الماضي تشعل تلك المواجهة لو لم تسارع روسيا إلى تهدئة الطرفَين، ومع ذلك أدّى الاختبار إلى إسقاط الـ «أف16». ومما قاله الإسرائيليون بعدئذ أن التوقيت لم يكن مناسباً للطرفَين في 10 شباط، فالإيرانيون لا يريدون مواجهة مباشرة قبل أن ينتهوا من بناء شبكتهم الصاروخية، أما الجانب الإسرائيلي فلا يزال يبحث عن مزيد من المعلومات عن الاستعدادات الإيرانية، وليس واضحاً ما إذا كان حديثه أخيراً عن صور جوية لقواعد إيرانية يعني أن «ذريعة» الضربة باتت متوفّرة. وتدرس إسرائيل إمكان ربط حربها بالجدول الزمني الترامبي الذي بات حدّد أيار (مايو) المقبل لحسم موقفه النهائي من الاتفاق النووي، لذلك ألح نتانياهو مجدّداً على إلغاء هذا الاتفاق، وكما في مؤتمر ميونيخ للأمن كذلك أمام منظمة «إيباك» كرّر نتانياهو: «علينا أن نوقف إيران وسنوقفها. لن نسمح لها أبداً بتطوير سلاح نووي، لا اليوم ولا بعد عشر سنوات ولا في أي وقت».

يفيد الانطباع الراهن لدى الإسرائيليين أنهم تأخّروا، إذ يعترفون بأن التمويهات الإيرانية تشوّش رؤيتهم، ومع ذلك فإن ما ينقصهم ليست المعطيات العسكرية بل القرار السياسي. تعتبر حكومة نتانياهو أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة القادرة على ضرب الإيرانيين تمهيداً لـ «طردهم من سورية»، ولذلك فهي تطلب وتتوقّع اصطفافاً دولياً وإقليمياً لدعمها واستعداداً لـ «مكافأتها». عدا الدعم الأميركي المضمون لكن «وفقاً لضوابط» اعتقد الإسرائيليون أن العلاقة الجيّدة بين نتانياهو وفلاديمير بوتين كافية لإقناع الأخير بمزايا التخلّص من الإيرانيين، إذا تعرّف إلى المصلحة التي يكمن جوهرها بالنسبة إليه في تفاهمات وضمانات أميركية لجعل الدور الروسي في سورية مريحاً أكثر مما الآن. في المقابل تضع إسرائيل نظام الأسد في موقف يستلزم «تعاونه» مع مشروعها أو يتحمّل التداعيات، كما تتوقّع أن يعجّل ضرب النفوذ الإيراني في سورية بـ «التطبيع» العربي معها سياسياً وبالأخص بزنسياً. أما الأهم عندها فهو أن يستكمل ترامب اعترافه بالقدس عاصمة لها باعتراف آخر بأن الجولان لم يعد «أرضاً محتلّة» بل صار «جزءاً لا يتجزّأ من أراضيها».

طموحاتٌ كثيرة لا تستحقّها إسرائيل بسبب سوء سلوكها الإرهابي وسجلّها الإحرامي، لكن متطرّفي حكومتها يرون أن الوضع العربي يسمح لهم بطرحها وما كانوا ليفعلوا لولا أن طموحات تماثلها بالشطط والترهيب والإجرام تراود أيضاً مهووسي النظام الإيراني، فهؤلاء يسعون بدورهم إلى إقرار دولي بما حصّلوه من نفوذ في أربع بلدان عربية. بديهي أن الإيرانيين والإسرائيليين يعملون من أجل مصالحهم أولاً وأخيراً لكنهم يروّجون بأنهم يبتغون «استقرار المنطقة». فكما تدعو إيران العرب إلى قبول هيمنتها لمساندة «مشروعها» المضاد للمشروع الأميركي- الإسرائيلي، كذلك تدعو إسرائيل العرب إلى عدم اعتبارها «عدوّاً» بل «حليفاً لا بدّ منه» للتخلّص من التهديد الإيراني. أي أنها تعرض «خدمات» مقابل «صفقات»، لكن مشروع «صفقة القرن» كما طُرح ويُطرح و»صفقة سورية» كما يجري طبخها لا يختلفان جوهرياً عن «المشروع الإيراني» بل يلتقيان معه موضوعياً. فكلّها مشاريع تخريب لتاريخ المنطقة ولحاضرها ومستقبلها.

في أي حال، باتت المواجهة الإيرانية- الإسرائيلية مؤكّدة وإن تأجّلت. ففي خضم الجدل حولها تتظاهر الإدارة الأميركية حالياً بأن لديها مقاربات جديدة، لكن كالإدارة السابقة لم تقدم أي مبادرة تؤكّد اهتمامها بالشعب السوري، وإنْ أكثرت من الخطوات التي فاجأت الروس وربما أقلقتهم، سواء في جعل شمال شرقي سورية محمية أميركية أو في وضع اليد على معبر التنف أو في ردع مرتزقة روسيا حين اقتربوا من حقول النفط في دير الزور. أما روسيا فتنتظر إعادة انتخاب بوتين لتقرّر ما وجهتها المقبلة إذا بقيت آفاق التوافق مع أميركا مسدودة. وأما نظام الأسد فأرسل رئيس مكتب الأمن الوطني علي مملوك إلى روما، القناة المعتمدة لتبادل الرسائل بين الأطراف، وبطبيعة الحال هناك استياء لدى النظام من الضربات الإسرائيلية التي تلقّاها في مواجهات 10 شباط وبعدها. لكن الجانب الإيطالي لم يتلقَّ جديداً من زائره بل تكراراً لردود سابقة على رسائل أميركية وإسرائيلية وفيها استعداد للتعاون الاستخباري (تحت الطاولة) في مجال الإرهاب وعروض للمساهمة في إعادة الإعمار، إلا أن النظام شدّد هذه المرة على أنه قد يوقف كل تعاون إذا لم تحسم الدول الغربية الاعتراف بشرعيته وإعادة التمثيل الديبلوماسي معه.